المراقب : وحدة الدراسات
هل بدأ الوقت ينفذ بالفعل من الصين وهي في طريقها لإعادة تشكيل العالم ، وإحتلال المربع رقم واحد على كافة الأصعدة الحياتية ؟
تولد الإمبراطوريات عادة من رحم القوة الإقتصادية ، ذلك أنه حين يشتد عود أي دولة وتتوافر لها فوائض المال والقوة ، تسعى دوما إلى التمدد خارج حدودها الجغرافية ، وتبقى هناك إلى أن يحين زمن ما يعرف ب ” فرط الإمتداد الإمبراطوري “، أي الوقت الذي تضحى فيه غير قادرة على دفع أكلاف البقاء بعيدا عن الوطن الأم ، وساعتها يتحتم عليها الرضوخ للأصوات الإنعزالية والعودة إلى الداخل .
في قراءة معمقة للمشهد الصيني قام عليها البروفيسور ” هال براندز ” أستاذ كرسي هنري كيسنجر في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة ” جونز هوبكنز ” الأمريكية بالشراكة مع البروفيسور ، مايكل بيكلي ، من معهد أمريكان إنتربرايز ، نجد أن هناك إزدواجية غير ظاهرة للعوام تحلق فوق الصين في الأعوام الأخيرة .
نجحت الصين في رفع ناتجها الإجمالي بمقدار 40 ضعفا منذ 1978 ، وباتت تمتلك أكبر إحتياطيات مالية في العالم ، وفائضا تجاريا ، وإقتصاديا يقاس من خلال التعادل في القوة الشرائية ، وقوة بحرية تقاس بعدد السفن .
لكن تلك المشاهد الظاهرية ، تخفي تباطؤا إقتصاديا خطيرا ، وإنزلاقا إلى نظام شمولي هش . كذلك تعاني البلاد ندرة حادة في الموارد وتواجه أسوا إنهيار ديموغرافي في زمن السلم عبر التاريخ ،وليس أخر الأسباب أن الصين تفقد إمكانية الوصول إلى ذلك العالم الذي رحب بها ومكنها من التقدم .
هل تعاني الصين بالفعل من نقص في الموارد والإمدادات ؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل ، فقد أختفت نصف أنهارها ، وترك التلوث 60% من مياهها الجوفية غير صالحة للإستعمال الآدمي ، بإعتراف الحكومة نفسها . كذلك جعلها التطور الذي حدث بسرعة خطيرة ، أكبر مستورد للطاقة عالميا .
وفي مقابل الصعود الملاحظ من العالم ، تبدو هناك حقائق بعينها لا يمكن إنكارها ، فالصين دمرت 40% من اراضيها الزراعية من خلال الإفراط في الإستخدام ، واصبحت أكبر مستورد للمنتجات الزراعية في العالم . ومع ندرة الموارد ، صار النمو مكلفا للغاية ، إذ بات تحقيقه يستلزم من الصين أن تستثمر ثلاثة أضعاف رأس المال البشري الذي أستثمرته في السنوات الأولى من القرن العشرين ، ما يشكل زيادة تفوق بكثير ما يكون متوقعا لدى نضوج أي أقتصاد .
هناك جزئية أخرى تلفت الإنتباه إلى المصاعب التي تواجهها الصين ، تلك الخاصة بعلاقتها بالدول النامية من جهة ، والديون العالمية من جهة ثانية .
أعتبرت الصين في السنوات الأخيرة قاطرة النمو الإقتصادي بسبب نمو الديون ، والصين على الرغم من أنها على عكس البلدان الفقيرة ، يمكنها الإقتراض من الغرب ، الإ أنها تطبع النقود بنسب هائلة ، وبهذا يحفزون الطلب بنفس الطريقة ، ويتزايد التخلف عن سداد القروض ، وهو ما يعني أن المخاطرة كبيرة جدا بالنسبة للإقتصاد الصيني .
عرفت الصين كيف تقدم نموذجا خلاقا تجير فيه الزيادة السكانية لصالح العملية التنموية والإنتاجية ، ومن هذا المنطلق أعتبرت أن الأيدي العاملة المتوافرة بكثرة عنصر قوة ، كما أن رخص أثمانها مقارنة بأسواق العمل الدولي مكنتها من إستجلاب الإستثمارات من كافة أرجاء الكرة الأرضية ، الأمر الذي دعا غالبية كبريات الشركات العالمية لأن تولي وجهها شطر الصين وتقيم على أراضيها مشروعاتها .
هذا الطرح ينقده بل يهدمه ، مايكل شومان ، الكاتب المتخصص في الشؤون الأسيوية ، عبر تقرير نشر في مجلة ” أتلانتيك “، الأمريكية في شهر أكتوبر تشرين أول المنصرم ، تحدث فيه عما أسماه فشل العبقرية الصينية ، التي يضرب العالم المثل بها ، في حماية المجتمع الصيني من الشيخوخة .
بحسب شومان ، هنلك حالة غامضة فيما يتعلق بالكارثة السكانية الوشيكة المحدقة بالصين ، حيث تشيخ الدول بسرعة إذ يكبر سكانها عمريا ، ما يهدد تقدمها الإقتصادي . ليست تلك المشكلة بجديدة ، إذ يدق الخبراء ناقوس الخطر منذ سنوات ، وقد يظن المرء أن صناع القرار الأفذاذ في الصين سيتعاملون مع هذا التحدي بالطريقة نفسها التي بنوا بها القطارات فائقة السرعة أو هزموا بها التفشي المتكرر لكوفيد-19 ، وبالهمة نفسها وبما يناظر الوزن الثقيل للدولة الصينية . بيد أن ذلك وللمرة الأولى ، ليس ما يحدث ، إذ يبدو الحزب الشيوعي الصيني عاجزا عن الإستجابة لقطار الشيخوخة السريع المتجه نحوه .
هل حاولت الصين الأيام الماضية الهروب من ذلك الفخ الذي نصبته لنفسها ولم ينصبه لها احد ما ؟