21 مارس 2023 8:48 ص
أخبار عاجلة

الإنسان العربي بين أزمات الداخل وتحديات الخارج.. دراسة

صورة تعبيرية

المراقب : وحدة الدراسات

 

هل بات حظ الإنسان العربي في النصف الثاني من العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، هو نفس حظ “كارتا فيلوس” اليهودي التائه، الذي نسجت حوله الحكايا بين الأساطير والحقيقة منذ ألفي عام وحتى الساعة؟
في يناير 2002 أصدر الكاتب الكبير الأستاذ “محمد حسنين هيكل” كتابه “نهايات طرق… العربي التائه 2001″… ساعتها لم تكن ظاهرة الهجرة بشقيها الاختيارية والقسرية، قد بلغت مبلغها الذي نراه اليوم، ولم يكن الربيع العربي، قد تسبب بدوره في اضطرابات نفسية للبعض، واجتماعية للبعض الآخر، مخلفا وراءه شلالات من القلق، وجنادل من الأرق، ووديان من الفزع.
رغم ذلك بث “الأستاذ” مخاوفه ، وسطر على الأوراق يقول… يبدو أن العربي أصبح هو “التائه” وهو صدي بالمقلوب لتعبير شاع قبل ذلك قرونا عن “اليهودي ألتائه”.
على أن المفارقة العجيبة التى بات العرب يعيشونها اليوم من المحيط إلي الخليج، تتمثل في أن “اليهودي الذي كان تائها” ها هو قد وجد لنفسه مكانا حط فيه رحله، وحصن موقعه، وفي نفس الوقت فإن “العربي اختلطت عليه الأمور، وبدأ وكأنه ضيع عالمه وفيه تراثه ومستقبله، ثم أنه أرتحل بحاضره تائها بين الحقيقة والوهم، وبين الرؤية والسراب، وبين الحلم والعجز.
وهكذا بدأ القرن الحادي والعشرون واليهودي الذي كان “تائها” متحصنا في المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، في حين أن العربي الذي كان راسخا في الطبيعة والتاريخ أصبح هو الشارد في التيه قد يعرف من أين؟ لكنه لا يعرف إلي أين؟
لماذا يتدفق العرب المهاجرين إلي كل أصقاع الأرض زرافات ووحدانا؟ وهل هو قدر مقدور في زمن منظور أن يفقد العربي وطنه، ومن يفقد وطنه يفقد كل شئ… يضحي سقط لا مولود كامل البنية.. بدون حبل سري أو مشيمة ثقافية، يخطو فوق أرض بدون جاذبية، في ورطة من نوع محير، فلا الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده، يعيش خارج الزمان وربما خارج المكان.
هل لنا أن نؤرخ لهجرة العرب بزمن معين في التاريخ الحديث؟
إذا خلينا جانبا هجرات الفينيقيين الذين ناداهم البحر في أواخر القرن التاسع عشر إلي الأمريكتين، يمكن التوقف بمرارة وحسرة عند تاريخ 5 يونيو من عام 1967.
هناك بدأت الانتكاسة النفسية الحقيقية، والشرخ الصادم في جدار النفس العربية، تلك التى وثقت بأن جيوش العرب قادرة على إلقاء إسرائيل في البحر، وإذ بالعرب في ستة أيام يخسرون سيناء، والقدس، والضفة الغربية، والجولان.. كانت المرارة أقسي ما يمكن.. وبات الاغتراب في الخارج أخف لوعة من البقاء بين جدران الوطن المنكسر على أمانيه وأحلامه.
وقد خيل وقتها لصناع القرار، وناشري الأفكار أن شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة كفيل بأن يوحد ما قد تفرق، ويضمد ما قد تجرح، فإذا بالوطن يضيق، عن الرأي والرأي الآخر، وإذا بالأجيال المتعاقبة تضيع منها الخطي بين أوهام النداءات القومية الثورية، ويوتوبيات الحركات الدينية الإسلامية.
جرت معركة أكتوبر عام 1973، وقد كانت لحظة تنوير حقيقية، غير أنها ضاعت لاحقا في خضم معارك وجدالات أخري، فقد افترق العرب عند مشروع السلام مع إسرائيل، وتعمق الصراع بين الداعين للصلح مع العدو الرئيس، انطلاقا من براجماتية سياسية عربية، بدا وكأنها قادرة على تقييم اللحظة الآنية، تقييما يستند إلي ضالة ما في يد العرب من أوراق، وما لدي أمريكا خاصة من 99% من تلك الأوراق، وبين جبهة دول الرفض.
هنا تعمق من جديد جرح نفسي واجتماعي في الجسد العربي، لتنتج هجرة مزدوجة، ذلك أن الأغنياء هاجروا إلي الخارج، أوربا وأمريكا واستراليا، والفقراء هاجروا إلي الله، حيث الجماعات الراديكالية، والمتطرفة، فتحت أحضانها واتفق أن الصراع السوفيتي ـ الأمريكي، وفر فرصة نادرة لتلك “الهجرة العنيفة”، زادت من مرارة الحياة في العالم العربي، عندما قرر أفراد تلك الهجرة العودة إلي الأوطان، التى باتت مستقر، ولاحقا ممر لأصولية أشد خطراً، إذ وجهت مدافعها ونيران رشاشاتها إلي صدر المواطنين، وعملت جاهزة على نشر أفكارها ونيرانها، ما دفع موجة جديدة من الهجرة للحاق بهجرة الستينات والسبعينات.
كان العنف الذي تبدي في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم داعيا للفصل الثاني من الانكسار النفسي، وهنا بدأت هجرة العقول أو ما يعرف بال (Brain Drain) أي مغادرة أصحاب الكفاءات العقلية للوطن العربي، من علماء، وأطباء، ومهندسين ومفكرين، بل وسياسيين وإعلاميين.. هل كانت تلك الهجرات نفسية أم اجتماعية؟ اقتصادية أم تحررية؟
باختصار غير مخل، يمكن القطع بأن الهجرة ظاهرة اجتماعية مركبة ومعقدة كما هي “احتجاج ضد اللامساواة”.
تكشف الدراسات والإحصائيات عن أرقام مفزعة، لهجرة أصحاب الأدمغة الذكية، أحداها صادرة عن مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية وتكشف عن أن حوالي 70 ألف من خريجي الجامعات العرب يهاجرون سنويا للبحث عن فرص عمل في الخارج، وأن نسبة 54% من الطلاب العرب الذي يدرسون في الخارج، لا يعودون إلي أوطانهم بعد انتهاء سنوات دراستهم.
ووفقا لإحصائيات صادرة عن جامعة الدول العربية ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة “اليونسكو” والمؤسسات العربية والدولية الأخرى، فإن حوالي 100 ألف عالم وطبيب ومهندس يغادرون لبنان وسوريا والعراق ومصر وتونس والمغرب والجزائر سنويا، 70% منهم لا يعودون إلي بلداهم الأم.
ماذا تعني تلك الأرقام؟ ولماذا تضيق الأوطان على هؤلاء ؟
حكما ليس الدافع عند هؤلاء الجوع، أو الفاقة، لكن ربما هناك جوع إلي الحريات، إلي الكرامة الإنسانية، إلي مستوي ما من حفظ حقوق المواطنة، والتعاطي على المستوي البشري.
ربما أفزع هؤلاء بسيكولوجيا إحساسهم بالأمان المفقود، بفقدان الحصانة التى كفلتها النواميس الإلهية، والشرائع الوضعية، بعيشهم في دائرة الخوف، بدون أمل في تحديد ملامح للغد، أو رسم أبجديات للمستقبل..
يرفض العالم والمبدع والمتفق والمفكر أن يبقي دائرا في حلقة مفرغة، في ترد لا يعرف التوقف، مطموراً في غيض من المشاكل أكبر من التطويق في الحال والاستقبال، ولهذا يسعي إلي بلاد الله حيث المنظومات والمصفوفات الإنسانية واضحة المعالم، متناسقة في التراتبية.
العربي التائه اليوم يمضي في دوائر وجماعات لا كأفراد فقط، خذ إليك الجماعات السياسية المختلفة التوجهات والمشارب، التى تختار من الغرب ملجأ وملاذا، ما الذي يدعوها للهجرة؟
حكما التضييق على أفكارها، والترويج لأرائها، وكأن “المونولوج” وليس “الديالوج” هو قدر العوالم والعواصم العربية….
لقد تجاوزت الهجرة العلماء والسياسيين، إلي الإعلام والإعلاميين وهذه ظاهرة سيسولوجيا في حاجة إلي تفكيك وتحليل، وبدورها تتصل اتصالا جذريا بفضاءات الحرية في بلاد “العرب أوطاني” والتي طاردت الاستعمار الخارجي منذ نحو سبعة عقود، غير أن استعمارا داخليا للعقول، لا يزال جاثما، يجعلنا من أصحاب “التوجه الأحادي” ذهنياً، دون مقدرة على التعاطي مع الآخر، وكأن الآخر بالفعل، هو الجحيم، كما قال جان بول سارتر فيلسوف الوجودية الأشهر، ذات مرة في ستينات القرن الماضي.
على أن ما تقدم وفي جميع الأحوال، يمكن أن يصنف أو يدرج تحت عنوان “الهجرة الطوعية أو الاختيارية” لكن خلف الباب هجرة أخري مغرقة في الألم والمرارة، تلك التى بدأت في العام 1948، وقد خيل للناظر وقتها، أنها الأخيرة من نوعها، ولم يكن أحد ينتظر تكرارها.
عن الهجرة القسرية نتحدث، عن التهجير بمعني أدق وأكثر وضوحاً، عن تهجير الشعب الفلسطيني من أراضية، على يد المحتل الصهيوني، والآن نتحدث عن النازحين والمطرودين من بلادهم، أو الهاربين من جحيم الحروب الأهلية العربية، والذين اقتربت أعدادهم، من الملايين الأربعة، يطاردهم الجوع، والتشرد على الحدود، وينتظرهم الموت في قوارب الهلاك، ويذلهم الأجنبي في معسكرات إيواء اللاجئين.. عن أي مصير بائس، وعن أي هجرة مريرة بات مصير المهاجر العربي الحزين؟
لقد أعتبر دعاة الحرية أن “زمن الربيع العربي” هو موسم تفتح الأزهار في الحدائق الخلفية للشعوب العربية، حدائق الحرية، كما حدث مع دول أوربا الشرقية، لكن المقاربة كانت ظالمة، فالأوربيين الشرقيين، كان لديهم من تراث الديمقراطية، ومن النسق الهيراركي الكنسي ما مكنهم بسرعة بالغة من العودة إلي السياقات الديمقراطية ومن جديد، في حين بقي التخبط العربي، بين العروبة والقومية والإسلاموية والاشتراكية، حاضنة للفشل وحاجز برمائي يعوق الوصول إلي سفينة نوح، أيا يكن اسمها أو رسمها، المهم أن تنقذنا من الطوفان وتقودنا إلي بر الأمان، عوضا عن أن تتقاذفنا “أمواج الأمم” وتلاطمنا “رياح الدهر”.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن الاستفاضة في الحديث عن هجرات العربي التائه، وأكلافها لا على الاقتصاديات العربية في حاضرات أيامنا فقط، بل على المستقبل الأنسانوي العربي، بكل أبعاده وتجلياته، غير أنه ومن أسف ربما يتحتم علينا أن نقر بأن الظاهرة ستأخذ في الازدياد، فالاستقرار عربيا وشرق أوسطيا بعيد المنال.
غير أن “وصفة متواضعة”، ربما تمكننا من الخروج من الأزمة الراهنة، أزمة ظلاميات الأصوليات، وضيق الديكتاتوريات ، وشمولية البربريات والبحث عن الطرق المؤدية إلي رحابة التنوير، وهذا لن يتأتى إلا عبر التخلص من الإيديولوجيات الصماء، الاستلابية الفوقية، إيديولوجيات ملاك الحقيقة المطلقة.
لن تنصلح أحوال الأوطان إلا بالدخول في عمق الأنوار التى لا تعمي على حد تعبير اليساري الفرنسي الشهير “ريجيس دوبرييه” والتوقف عن الممارسات الثورية المراهقة، التى تجاوزتها الدول والأمم منذ زمن بعيد.
لن يبقي المواطن العربي آمنا في يومه، مستقلا في غده، إلا بانتهاء الطفولات العقلية، تلك التى تبدأ بالثورة على قيود الماضي المكبلة للانطلاق، بالأخذ من التراث جوهرة لا قشوره.
لسنا من دعاة البكاء على “المظلوميات التاريخية” للعرب، ومنها الهجرة بشقيها، بل من المنادين بالنظر إلي اللغة الصينية، والتوقف عند كلمة “الأزمة” التى يعبر عنها بصورتين، الأولي تشير إلي الخطر، والثانية إلي الفرصة… هل لنا في عمق هذه الأزمة أن نبحث عن الفرصة الحقيقية اللازمة لوقف التيه العربي حول العالم؟

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.