1 أبريل 2023 5:34 ص
أخبار عاجلة

جدلية العلاقة ..بين النفط ومجتمع المعرفة العربي.. دراسة

أرشيفية

المراقب : وحدة الدراسات

ضمن الأسئلة العديدة التى تزخر بها الساحة العالمية عامة والعربية خاصة يأتي ذاك التساؤل المتعلق بالذهب الأسود أي النفط، وهل كان اكتشافه نقمة أم نعمة على الإنسانية بشكل عام؟
ولان القضية من وجهة نظر عالمية تحتاج لدراسات وافية، لذا سنكتفي في هذه القراءة بالنظر إلي الجانب العربي، الذي لم يحسم القضية بين فريق يذهب إلي أن النفط كان نعمة ولاشك هبطت من السماء على الدول التي اكتشف في باطنها، وفريق آخر مضي في اتجاه معاكس معتقدا أنه كان نقمة على مجالات إنسانية عديدة في دوله، لعل في مقدمتها قضايا الديمقراطية والحريات، وتأثيراته على نشوء وارتقاء مجتمع المعرفة، التي هي مضمار السباق الحقيقي للأمم والدول في القرن الحادي والعشرين.
حكما لا نستطيع الحديث عن مجتمع المعرفة بمنأي عن السياقات الديمقراطية، وللوهلة الأولي يبدو للناظر أن الإيرادات النفطية تقلص من مساحات الديمقراطية، ذلك لأنه يستخدم كأداة سحرية لتلبية مطالب المواطنين، دون أن يطلب منهم في المقابل أداء ما عليهم من حقوق المواطنة، مثل دفع الضرائب، وتسديد القروض في مواقيتها المتفق عليها، دون إعفاءات فوقية من وقت لآخر، وكأن الحكومات في هذا الحال مسخرة لخدمة المواطنين، ما يفقد العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه جان جاك روسو، فاعليته بين الحكومة والشعب، ليحدث الخلل الأول في طريق البناء التكتوني للدولة… هل هذا نسق ثابت في كل دول النفط؟
بالقطع لا، فهو يختلف من دولة إلي أخرى بحسب وجود مؤسسات حقيقية، حكومية، وأهلية، وبقدر ما يتواجد في تلك الدولة من قدرات لحرية المعرفة، ومسارات التنمية، ورحابة للمجتمع المدني، وبمعني أشمل وأدق عندما تكون الحياة منضبطة على قياس دولة حديثة قائمة قبل ظهور النفط، وهذا ما نراه ونلمسه في دول كالنرويج وكندا، حيث مجتمع العدل والكفاية، والتنمية المستدامة، والمعرفة العميقة المتصلة كائنة قبل أن تنفجر ينابيع الغمر العظيم بالذهب أيا كان نفطا أو غاز، وما إلي ذلك من ثروات.
وماذا عن عالمنا العربي… يتساءل المتسائل… هل حقق النفط طوال العقود السبعة المنصرمة ما كان جديرا به أن يحقق لاسيما فيما خص دفع الدول النفطية إلي مرتبة أعلي شأنا، أنفع وأرفع لمواطنيها وبصورة خاصة في إطار الحياة المعرفية، العلمية والتنويرية؟
قبل الدخول في لجة النقاش، ربما نحتاج لبعض الآراء الصادمة، التى تحدث بين متلقيها موجات من التساؤل الرصين… في هذا المقام يحق لنا أن نطرح علامة استفهام هل هو نفط عربي بالفعل؟
يذهب المفكر الفرنسي الجنسية المصري الأصل، الاقتصادي العالمي، د. سمير أمين” الى ان أن نظرية سيطرة المراكز على الأطراف تمارس أدوات احتكار من نوع جديد، أنها تسيطر على التكنولوجيا ووسائل الاتصال والمعلوماتية من ناحية، ثم تسيطر على توزيع الأموال على صعيد عالمي، وفي المقام الثالث نجدها تسيطر على الوصول إلي الموارد والثروات الطبيعية على كوكب الأرض، بما في ذلك النفط العربي، الذي هو عربي فقط في باطن الأرض، أما حين يستخرج، فهو يضحي نفط غربي – رأسمالي مشتري سلفا، في مقابل أموال يعاد توظيف معظمها في المصارف الغربية .. هل غياب المعرفة ومجتمعها بما يعني من قدرات علمية وتكنولوجية، وعقول عربية علمية مبدعة هو السبب الرئيسي في كون معظم فائدة اكتشاف النفط في الأرض العربية لم يؤثر بالإيجاب على الداخل العربي، بل تم استغلاله من قبل القوي الإمبريالية الغربية والشركات الكومبرادورية الوسيطة؟
يستدعي الجواب تعريفا لازما لمجتمع المعرفة، وهو في أبسط كلمات ذلك الإطار الإنساني الوطني الذي يوفر ويشجع على وجود وتطور مستويات متقدمة من البحث العلمي، والتنمية التكنولوجية التى توفر المادة المعرفية لجميع أفراد هذا المجتمع بلا استثناء، وبدون تمييز، بحيث يتم حث هؤلاء الأفراد على تعلم كيفية تحقيق الاستفادة الكاملة المتكاملة والشاملة من المواد المعرفية المتوافرة وتوظيفها واستثمارها وإدارتها بشكل مناسب، وبالتالي فإن المعرفة هي التى تميز المجتمع، وتحدد قدرته على الاستمرار والصمود، والتقدم والمنافسة… أين توجد المجتمعات العربية النفطية من هذا المجتمع المعرفي المعلوماتي؟ وأين هو أثر مداخيل النفط طوال السنوات المنصرمة؟
في دراسة قيمة للغاية، كتبها البروفيسور “أندرباس شلايشر” مدير التعليم والمهارات، والمستشار الخاص لسياسة التعلم في “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” في فرنسا نراه يحدثنا عما يسمي بـ البرنامج الدولي لتقييم الطلاب PISA، والذي يعد مقياسا عالميا لمخرجات التعليم، ويجري هذا الاختبار في ظروف موحدة لقياس مدى اكتساب الطلاب البالغين من العمر 15 عاما للمعارف والمهارات التى تعتبر أساسية وهامة للمشاركة الكاملة في المجتمعات الحديثة.
تكشف نتائج اختيار PISA أن معارف ومهارات أي دولة هي مؤشر قوي للثروة والعوائد الاجتماعية التى ستجنيها البلاد على المدى الطويل. فعلي سبيل المثال، قد يكون رفع متوسط درجات طلاب في التقييم الدولي بنسبة 25 نقطة هدفا متواضعا، وأقل مما حققته بولندا، أكثر نظام تعليمي متقدم مشارك في التقييم، بين عامي 2000 و 2006 فقط. ومع ذلك قد يعني هذا التقدم زيادة كلية في الناتج الإجمالي بأكثر من 100 تريليون دولار خلال فترة حياة هؤلاء الطلاب… هل من رسالة ما في دراسة البروفيسور “شلايشر” للعالم العربي؟
بلا شك، تقطع بأن المهارات هي المفتاح للوظائف الأفضل، والحياة الأرقى، كما أن المكاسب من تحسين التعليم أكبر بكثير من أي تكلفة محتملة لإصلاح التعليم، فالثروة الكامنة في شكل المهارات غير المطورة لسكان العالم العربي، أكثر بكثير من الفائدة التى يجنونها الآن من استخراج ثروات الموارد الوطنية.
هل الصورة سوداوية للغاية في عموم دول العالم العربي لاسيما النفطية منها؟
بالقطع هناك تجارب متميزة، تم من خلالها إظهار الأثر الإيجابي لريع النفط، لكنها لا تمثل في مجموعها منظومة معرفية وطنية داخل دولة بعينها، كما أنها لا تشكل عقد تنتظيم فيه بقية دول الجوار العربي النفطي، من أجل بناء عالم معرفي عربي متكامل ومتصاعد، ما يعني في نهاية المشهد أن هناك حالة من القصور الذاتي التنموي المعرفي… كيف ندلل على صحة هذا الحديث؟
حتى العام 2010 كانت تقارير التنمية العربية تتحدث عن وجود أكثر من 70 مليون “أمي” في العالم العربي معظمهم من النساء ولعل السبب كامن في أرقام التقارير عينها، ذلك أن نسبة الإنفاق على التعليم ومراكز البحث العلمي، وبناء القاعدة المعرفية للإنتاج، وتشجيع الفنون والإبداع، وغيرها من ركائز مجتمع المعرفة، لم تتبدل كثيرا، فهي مازالت في أفضل التقديرات الإحصائية الجادة تراوح بين نصف في المائة إلي واحد بالمائة من الموازنة العامة.
هل يعني ذلك أن الشعوب العربية على صعيد الأفراد لا الجماعة الوطنية جدباء قفر من الكفاءات العلمية التى يمكن أن تكون في الحال والاستقبال ركائز حقيقية ومنطلقات أساسية لمجتمع المعرفة؟
الشاهد أن ذلك ليس كذلك، إذ أن هناك من أبناء العرب من حقق ولا يزال يحقق نتائج مذهلة حول العام على صعيد التقدم العلمي والمعرفي.
خذ إليك على سبيل المثال الدكتور فاروق الباز الذي ضاقت به الحياة الجامعية في مصر، ليضحي أحد العلماء الذين ساهموا في صعود الإنسان إلي القمر، وأمثلته كثر، أحمد زويل الذي كرمه العالم لأبحاثه عن الفيمتوثانية، ومجدي يعقوب في جراحات القلب، وشارل العشي في ريادة الفضاء، وميشال عبيد في أبحاث الأورام السرطانية، ويضيق المسطح المتاح للكتابة عن السرد، والسؤال لماذا ضاقت الساحات العربية العلمية والمعرفية بهم؟ وهل كان لعوائد النفط، لدى دولة بعينها، أو من خلال صندوق سيادي مشترك، أن تغير الحال، إذا فكرت في إنشاء مدينة علمية عالمية تجمع فيها هؤلاء العلماء، وتسير فيها الحياة البحثية وكأنها قاعدة عسكرية؟ ثم ماذا عن المردود المتوقع لمثل هذه المدينة التى تعد مركز أبحاث عربي – عالمي، على كافة مناحي الحياة، وربما في مقدمتها النفط نفسه، حتى يصبح عربيا بالفعل، فمن عجائب وغرائب الإقدار أننا لا نمتلك التكنولوجيا اللازمة لاستخراجه، ما يجعلنا في الحال والاستقبال عرضه لضغوطات الأجنبي، وتلاعبه بالأسواق.
الحقيقة المرة في كل الأحوال هي أن عائدات النفط لم تكن تلك النعمة بالقدر المنتظر، لاسيما فيما يختص ببناء وامتلاك معرفة الابتكار والتجديد، والدليل على ذلك فشل وجود مراكز بحثية علمية، أو تنظيرية إستراتيجية حقيقية، لا مراكز للنشر النظري فقط، دون مقدرة حقيقية على ترجمة الأوراق إلي فعاليات علمية، وتجارب معملية ثم حياتية تغير من وجه الأوطان كما جري مؤخرا مع بعض الدول الكبرى حول العالم…
هل من مثال قريب؟
بلاشك تبقي الولايات المتحدة الأمريكية مهما وجهنا إليها من اتهامات بالإمبريالية وبمحاولات الهيمنة والسيطرة العسكرية على العالم، تبقي مجتمع المعرفة والبحث العلمي الأول حول العالم، وخير دليل على ذلك أنها استطاعت عبر مجتمع العلم والمعرفة أن تستنطق الحجر في الجبال، وتستخلص من الصخور، النفط والغاز، لتضحي بذلك أكبر منتج له حول العالم، ولتتخلص من ضغوطات الدول التى كانت تستورد منها حاجتها النفطية، ولتفرض أرادتها ساعة ما تشاء على بقية دول العالم، بالطريقة التى تريد أن سلما وإن حربا.
هل فات الأوان لإدراك مجتمع المعرفة العربي لاسيما وان النفط قائما ومداخليه حاضرة بصورة أو بأخرى؟
يحدثنا عالم التنمية البشرية، الكاتب الأمريكي الكبير “ديل كارنيجي” في كتابه الرائد “دع القلق وأبدأ الحياة” عن كيف أن أي إنسان متوسط أو محدود الذكاء يستطيع أن يستفيد من المنعطفات الإيجابية في الحياة، أما الإنسان الذي الخلاق، فهو القادر على تحويل أعطاب الحياة وإشكالياتها إلي معارج كبري يحقق من خلالها قفزات وانتصارات على الواقع الأليم… هل يمكن تطبيق هذا المنظور السسيو ثقافي أن جاز التعبير على حالة انخفاض أسعار النفط؟
ربما يكون الانخفاض نعمة كبرى، لا نقمة عظمي كما يخيل لكثيرين… كيف ذلك؟ أمرأن يمثلان الطريق لتحقيق مكاسب كبرى رغم حالة التدهور في الأسعار:
الأول: هو تغير النظرة التقليدية للنفط، تلك النظرة الأولية التى تتعاطي مع تلك الثرورة بمنظور الاستهلاك الأول، أي البيع الخام، من أجل الحرق لتوليد الطاقة، ولهذا يجب أن يعاد النظر في النفط وطرائق الاستفادة منه من خلال تحويله إلي أداة للتنمية الصناعية المستدامة، عبر تحويله إلي سلع ومنتجات بتروكيماوية، وبصورة تدريجية تتوافق مع سرعة التحولات المشهودة نحو الاستغناء عنه كوقود، ناهيك عن أن تحويله إلي مواد سلعية مطلوبة في الأسواق العالمية، سوف يحقق عوائد ريعية، وفوائض مالية أكبر وبكمية استهلاك أقل.
إضافة إلي ذلك أن تصنيعه سوف يوطن في دول النفط صناعات حديثة، وتقنيات جديدة، بما يوفر فرص عمل جديدة بالآلاف ويزيد الدخل… هل يقودنا هذا الاتجاه إلي الأمر الثاني؟
ذلك كذلك بالفعل، فتلك النظرة المغايرة للنفط ستخدم مجتمع المعرفة عربيا بطريق غير مباشر، فعلي هامش الصناعات التحويلية الجديدة، ستنشأ ولاشك مراكز الأبحاث العلمية، وازدياد المداخيل المالية سوف يساعد ولاشك على التوجه إلي الاقتصاد القائم على المعرفة، وبهذين الجناحين أي تصنيع النفط، وتوطين اقتصاد المعرفة، يتحقق أمن المداخيل المالية، وتتعاظم مصادر المعرفة.
تخلق أزمة أسعار النفط فرصة وتحدي جديدين في منطقة الخليج على نحو خاص، للتحول العلمي والمعرفي الممنهج، فقد عاش المجتمع الخليجي طويلا على فكرة شراء المعرفة والتقدم التقني، وعلى الرغم من صيحات كثيرة ترددت في مشروع “استيطان التقنية” والبعض تحدث عن استنباتها، وقد أنشأ لهذا الأمر بعض المؤسسات، والتى وأن قدمت بعض المساهمات إلا أنها – والعهدة هنا على الراوي عالم الاجتماع العربي الكبير الدكتور محمد الرميحي – مساهمات بعيدة عن ما وصلت إليه مؤسسات أخري دولية حتى في العالم الثالث منها الهند والبرازيل التى باتت اليوم تقفز قفزات هائلة في رؤيتها للغد علميا ومعرفيا.
هل حان الوقت للعالم العربي عامة ولدول الخليج خاصة أن تغير نظرها ونظرتها للنفط، عبر الانضمام لمجموعة البلدان التى تتعاون من خلال PISA من أجل رفع درجة نجاحات مجتمعها المعرفي؟
هذا هو التحد وتلك هي الفرصة امام مجتمع المعرفة العربي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.