وحدة الدراسات
بات الشتاء الديموغرافي أو السكاني مصدر قلق حقيقي في إيطاليا ، وهي ماسأة في غير صالح ومصالح الأسر الإيطالية والدولة ومن وراءهما المستقبل بشكل عام ، غير أن علامة الإستفهام الحري بنا طرحها :” هل إيطاليا بمفردها هي من يواجه هذا المستقبل السكاني المخيف ؟
يرى البابا فرنسيس أن هذا التوجه هو إنكار للأبوة والأمومة ، ويقلل من قيمتنا ، ويسلبنا بشريتنا ، وبذلك تصبح الحضارة عتيقة ، وبدون إنسانية ، لأنها فقدت غنى الابوة والأمومة ، واللذان يمثلان ملء حياة الإنسان .
ولعله من المؤكد أن إيطاليا وإن كانت صاحبة القدر الأكبر من الخلل الديموغرافي ، الإ أن الخطر محدق باسباينا والمانيا ، وبولندا ،وبدول أخرى منها ما هو آسيوي مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وحتى أمريكا اللأتينية قد أصابها فيروس الأنانية كما الحال في البيرو .
أكثر من نموذج أوربي بدأت تتحقق فيه قراءات البروفيسور ” ميشيل شويانيز “، الأستاذ الفخري بالجامعة الكاثوليكية في لوفان بسويسرا ، وعضو الأكاديمية الحبرية البابوية للحياة ، بشأن ” الشتاء الديموغرافي ،وقد كان الرجل أول من اصطك هذا المصطلح .
خذ إليك على سبيل المثال بولندا ، والتي هي نموذج واضح أخر بعد إيطاليا على عمق الأزمة ، وتجذر الإشكالية ، ذلك أن الهجرة منها إلى خارجها ، وإنخفاض معدلات المواليد ، وزيادة عمر البشر ما يعني أرتفاع معدلات الشيخوخة ، جميعها تظهر اليوم تحديات ديموغرافية ، باتت تؤثر على أوضاع المالية العامة في بولندا خاصة ، وفي عموم الإتحاد الأوربي ، إلى درجة أن المصروفات المتعلقة بالسن سوف ترتفع بمقدار 1.8 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2060 .
والشاهد أنه إذا كان فرنسيس قد حذر قبل أسابيع من إحتمالات سكانية أوربية مخيفة ، الإ أنه للأمانة العلمية البحثية والموضوعية ، سبقته أصوات كثيرة في هذا السياق ، منها على وجه التحديد صيحة أو صرخة رئيس وزراء فرنسا ، ميشيل روكار ، عام 1989 ، خلال مؤتمر أطلق عليه أسم العائلات جري في 20 يناير كانون الثاني من ذلك العام ، أي قبل نحو ثلاثة عقود من الآن وقال فيه :” معظم دول أوربا الغربية في طريقها إلى الإنتحار بسبب التركيبة السكانية ، ومضيفا إن كثيرا من الأوربيين محكوم عليهم بمستقبل سيكونون فيه مسنين بدون أطفال أو أحفاد حتى بدون أبناء أو أخوة ، كما أن الهجرة ليست حلا كافيا للتخفيف من أزمة الخصوبة المخفضة في غالبية بل كل دول أوربا “.
ما السبب الرئيس في نشوء وإرتقاء ظاهرة ” الشتاء الديموغرافي ” أوربيا ؟
يمكن القطع بان الحرية المطلقة الغناء ، والمتحللة من آية قيود أخلاقية أومجتمعية هي السبب المباشر .
يبدو غالبية الشباب الأوربي في العقود الأخيرة ميال إلى عدم الإرتباط بأطفال تمثل بالنسبة لهم أصفادا ضد حركتهم وتنقلاتهم ، بل ضد تغيير موجات حياتهم ، ولهذا فإن السبب الأساس في الأزمة يمكننا أن نعزيه إلى تلاشي قيم ثقافية مجتمعية في مقدمها مفهوم الأسرة وأهميتها بالنسبة للمجتمعات أول الأمر ، وللإنسانية بشكل أوسع .
الذين لا يريدون الأطفال هم باحثون عن الحرية المزيفة ، وهولاء لا ينتظمون في أي من المنظومات الثقافية أو الدينية ، والتدهور الخطير لهذه القيم ، هو ما ولد ظهور وتعميم القيم المضادة .
أضحت غالبية المجتمعات الأوربية في العصر الحديثة ، شديدة القرب من مفهوم الرواقيين الذين عرفتهم أثينا في أوج حضارتها ، وقد كان شعار هولاء :” فالنأكل ولنشرب فإنا غدا نموت “.
ساعد على تمدد زمن ” الشتاء الديموغرافي “، وبحسب البروفيسور “ألبان دينتر يممونت “، استاذ علم الجغرافيا في اوربا في جامعة نافارا في اسبانيا ، ظهور مفاهيم مثل الثورة الجنسية ، تلك التي تستلزم إضفاء الصفة الرسمية والموافقة الإجتماعية على بدائل لفكرة الأسرة المترابطة التقليدية .
هل بات التقدم العلمي سلاحا ذو حدين ، فكما يغني البشرية ، يمكن أن يفقرها أخلاقيا وإنسانيا ؟
يبدو أن ذلك كذلك ، لا سيما وأن البدائل غير الطبيعية للتكاثر البشري ، بدأت تشغل حيزا مخالفا للنواميس الطبيعية ، وهناك من يأمل في أشكال من التكاثر ، بعيدا عن الوحدة الطبيعية بين الرجل والمرأة كشأن الله في خلقه .
هنا لابد من الإشارة إلى أن التلاعب الجيني والتخصيب فيالمختبرات والاستنساخ ، تطرح فيما يتعلق بالجنس البشري والزواج والاسرة ، عنصر جديد ومقلق من التفكك الشخصي والجماعي .
هل من عواقب مباشرة للشتاء الديموغرافي الأوربي في المدى المنظور ؟
الجواب على صعيدين ، أنسانوي ثقافوي أول الأمر ، وإقتصادي مالي في الدرجة الثانية .
يعني الشتاء الديموغرافي ، إندثار الثقافة الأوربية ، مع خسارة صافية لملايين السكان الأوربيين في النصف الأول من هذا القرن عطفا على شيخوخة مزعجة من السكان .
ثانيا ، وعلى الجانب المالي سوف ترتفع رسوم الضمان الإجتماعي ، وسوف تطفو على السطح إختلالات خطيرة في هياكل الإنتاج والإستهلاك .
على أن الكارثة الأكبر بالنسبة للعالم برمته وليس للأوربيين فقد تتمثل في إمكانية الوصول إلى نقطة زمنية تصل فيها الحضارة الأوربية التنويرية ، إلى الإضمحلال كما جرى لحضارات إنسانية سابقة رومانية ويونانية وفرعونية .
هل من خلاصة ؟
المؤكد أنه لا يمكن تغيير الخلل العميق في واقع أوربا الديموغرافي الإ من خلال تغيير عميق في الموقف تجاه واقع الشخص ، الجنس ، الزواج ، الإنجاب ، الأسرة ،وفي نهاية المطاف ، أمام الواقع الأعمق لما تستتبعه الحالة الإنسانية لجوهرها وأهدافها النهائية .
وفي كل الأحوال يبدو صوت فرنسيس صيحة لتنبيه الباحثين عن هياكل أخرى مختلفة عن الإسرة التقليدية ، ما يؤدي بالضرورة إلى تناقضات جوهرية في البنية التكتونية البشرية ، تناقضات لا يمكن القضاء عليها الإ من خلال إستعادة القيم التي تعزز الاسرة كنواة لمجتمع بشري صالح وطبيعي .