شَعَرَ بعض سكان القاهره اليوم بزلزال بسيط، لكن مصدره الرئيسي كان قويا في تركيا وسوريا، وتعدي عدد الضحايا الف شخص، وتشرد عده آلاف، وقد ذكرني ذلك بزلزال تركيا عام ١٩٩٠، حيث كنت بمكتبي بجوار مبني التليفزيون، وسمعت جرس الانذار في ماكينه وكاله الاسوشيتدبرس يدق، وهو مايعني خبر عاجل، ذهبت الي الماكينه لأقرأ خبر زلزال قوي يضرب منطقه في جبال تركيا مع وقوع عدد كبير من الضحايا.
كان بالمكتب مراسل التليفزيون الياباني NHK بالقاهره السيد ياناجي ساوا فاعطيته الخبر ليقرأه، ثم يتصل بمكتب التليفزيون في طوكيو ليتحدث لبضع دقائق ثم ينظر الي ويقول هل تستطيع توفير طاقم تصوير للمغادره الفوريه لتغطيه احداث الزلزال، واحرص علي تواجدك معي، رددت عليه مبدئيا اليوم جواز سفري في جيبي، وذهبت للمصور الموجود بالمكتب وسألته هو ومسجل الصوت، هل جوازات سفركم بالمكتب فاجابوا نعم، فطلبت منهم تحضير وحده تصوير للتحرك خلال ٢٠ دقيقه لمطار القاهره.
طلبت من السكرتيره حجز ٤ اماكن علي اول طائره مغادره الي انقره او اسطنبول، وطلبت من الاداره الماليه احضار شيك بالدولار لصرفه من اقرب فرع للبنك والذي يقع داخل فندق هيلتون رمسيس، اخبرتني السكرتيره ان هناك رحله تغادر الي انقره خلال ساعتين وخمسون دقيقه، فطلبت منها طلب المساعده من طاقم العمل الموجود بالمكتب لحجز التذاكر، وتجهيز سياره للذهاب الي المطار، وتحضير كشف معدات السفر الخاص بجمرك مطار القاهره، جهوزيه طاقم التصوير للتحرك كانت سريعه نظرا للخبره التي اكتسبوها في تغطيه احداث الارهاب خلال فتره الثمانينات، وقبل مرور نصف ساعه كنا بالسياره متجهين الي المطار، مع متابعه لديسك الاخبار بالمكتب لشركه الطيران حتي تحتفظ باماكننا علي الطائره، حيث سنصل متأخرين، وعلي المخلص الجمركي ليكون متواجدا بالمطار لتسهيل وسرعه انهاء اجراءات السفر والجمارك، واعطائنا آخر تطورات خبر الزلزال قبل الصعود الي الطائره.
في الطريق للمطار اوقفت السياره امام احد محلات الملابس بمنطقه مصر الجديده، واشتريت علي عجل ٤ سترات سميكه تحمي من البرد، لعلمي بانخفاض الحراره بجبال تركيا، ووجود جليد ونحن نغادر بدون حقيبه ملابس علي الاطلاق، كما اشتريت حذاء سميك لي يمنعني من التزحلق بسهوله، ونجحنا في ركوب الطائره الي انقره.
عند هبوط الطائره بمطار انقره توجهنا لاستلام حقائب المعدات، وذهب المراسل ليبلغ طوكيو تليفونيا بنجاحه في الوصول لانقره، ولكنني سمعت من ينادي اسمي في الاذاعه الداخليه للمطار ويطلب مني التوجه لباب السفر رقم ١٤، توجهت الي هناك لأفاجأ بمندوب شركه طيران شارتر يخبرني بان مكتبي بالقاهره تواصل معهم وحجز طائره خاصه تستطيع حمل ٨ ركاب وحقائبهم لنقلنا لمطار المدينه المنكوبه بالزلزال، فتوجهنا جميعا لنركب طائره من طائرات رجال الاعمال، تمتاز بالمقاعد الوثيرة والراحه التامه والتي غادرت بنا فورا الي مطار صغير بالبلدة المنكوبه، ولحسن حظنا فان المطار لم يصبه الضرر، ولم تنقطع عنه الكهرباء لوجود مولد صغير قادر علي تشغيل برج المراقبه فنجحت الطائره في الهبوط.
نزلنا ارض المطار ولكن كابتن الطائره قال لي، هذا المطار غير مجهز للطيران الليلي ولهذا فانني ساغادر للعوده الي انقره بعد خمسون دقيقه بالضبط، ولن انتظر، فاخبرته ساعود اليك قبل ان تغادر سواء سنعود الليله معك ام لا.
اخبرت المراسل الياباني ان هناك فرق توقيت بين انقره وطوكيو، وخلال اربع ساعات تبدأ نشرات الاخبار في طوكيو وعلينا مدهم بماده تليفزيونية عن الحدث، فلنذهب لوسط البلده ونأخذ لقطات عامه للوضع، ونتحدث مع الاهالي، واحد المسئولين وان تتحدث انت للكاميرا ملخصا الوضع ولتأكد ان القناه اليابانيه في قلب الحدث، واننا سنوافيهم لاحقا لتفاصيل الحدث ومتابعته، وضرورة ارجاع شريط التصوير لانقره لبثه عبر الاقمار الصناعيه الي طوكيو. مشينا في وسط البلده المناظر كانت بشعه، بيوت خرسانيه متهدمه وكأنها بُنيت من كارتون، درجه الحراره تحت الصفر، واي نقطه مياه علي الارض متجمده، انقطاع تام للكهرباء وجميع وسائل الاتصال، امام احد المنازل المهدمه قام رجل في نهايه الاربعينات وابنه في العاشره من عمره بالجلوس بجانب المنزل، وقاموا باشعال النار في اخشاب اقتنصوها من شبابيك منزلهم المهدوم بحثا عن بعض الدفء من صقيع الجبل، عندما سألتهم لماذا لاتذهبوا لمركز التجمع في نهايه الشارع، قال الرجل نحن ننتظر فرق الانقاذ لرفع الكتل الخرسانيه الثقيله لاخراج زوجتي وحماتي واثنان من بناتي تحت الانقاض، وقال كنت اسمع صوت ابنتي الصغيره يأن ولكنه خفت منذ ساعه، عند منزل آخر كان جزءا منه سليما ولكن اصحابه جالسين حول النار في الشارع امام المنزل سألتهم لماذا لا تدخلون في الجزء السليم من المنزل لازدراء البرد، اجابوا نحن نخاف من توابع الزلزال، فقد تحدث في اي لحظه وينهدم الجزء الباقي، حتي زريبه الحيوانات المليئه بالجاموس لم تسلم، فقد تهدمت فوق الحيوانات عروق من الخشب قضت عليهم.
كان الوضع كارثيا والطقس سيئا والمساعده والانقاذ غير موجوده، طلبت من المصور عدد الدقائق التي صورها فاجابني ٣٨ دقيقه، طلبت منه اعطائي الشرائط للحاق بالطائره قبل ان تغادر، جريت مسرعا والشرائط بيدي، ولكن المراسل قال لي عليك العوده لانقره مع الشرائط، والذهاب للتليفزيون التركي لبث ماده التصوير الي طوكيو، عندما وصلت الي المطار الصغير الذي كان بلا ابواب او حواجز وجدت باب الطائره مغلق، والمحركات تدور والانوار الحمراء بالاجنحة تومض، وكنت منهكا من الركض حيث الطريق للمطار كان صعودا مستمرا، ولكنني تحاملت علي نفسي واركض لاقف امام الطائره حتي يراني الكابتن، والذي اعاد فتح الباب وانزل درجات سلم الطائره الاربعه، لادخل في الدفء وليقول لي كابتن الطائره، انت متأخر سبع دقائق، وكما تري فاننا دخلنا في الظلام ونري مدرج الاقلاع بصعوبه، ما ان جلست علي مقعدي وفور الاقلاع نمت ولم استيقظ الا عند هبوط الطائره بمطار انقره.
نزلت من المطار لاستقل سياره اجره الي الفندق، حيث اجريت مكالمه مع المقر الرئيسي للتليفزيون الياباني بطوكيو اخبرتهم بماده التصوير، وطلبت منهم حجز الاقمار الصناعيه بعد ٤٥ دقيقه لتوجهي لمبني التليفزيون التركي.
وصلت لمبني التليفزيون وصعدت الي حجره البث، لاجد موظفا اعتبرته نموذجا للعاملين بالتليفزيونات الحكوميه، حيث لايبالي بي او بما قمت بتصويره، واخبرته علي الفور ان ماده الشرائط لم يتم تصويرها بنظام بال الاوروبي، ولكن بنظام NYSC المتبع في امريكا واليابان، فاخذني الي نهايه الاستوديو ووضعني امام ماكينه لعب الشرائط القديمه، والتي يبدوا ان احدا لم يلمسها منذ سنين، حتي انني قمت بتوصيل الكهرباء اليها، وبدا هو متضايقا لاضطراره لتوصيلها لاجهزه البث، ثم اشار الي جهاز تليفون مجاور وقال لي طوكيو اتصلت مرتين وستعاود الاتصال بك للتنسيق، وتركني وغادر ولم اره حتي عند رحيلي.
عندما وصلت الفندق ناداني موظف الاستقبال وقال لي هناك مكالمه لك من اليابان وكانت من مدير الاخبار بالتليفزيون الياباني، الذي شاهد الشرائط وشكرني علي المجهود وعلي ضروره توجيه الشكر لباقي الطاقم، وسألني عن خطه العمل فاخبرته انني ساعود لطاقم التصوير ظهر الغد، للعوده الي انقره وسنبث لكم ماده اخري غدا، توجهت بعد ذلك الي مطعم الفندق وتناولت حساء الشوربه التركيه، وصعدت لغرفتي للنوم، وكانت الساعه تقترب من الحاديه عشره مساءا.
حوالي الساعه الثانيه صباحا، وبينما اغط في نوم عميق، رغم قلقي من بقاء المراسل وطاقم التصوير وسط الصقيع وانعدام الخدمات، بينما انا في غرفه فندق خمسه نجوم، رن جرس التليفون فاستيقظت بصعوبه، لاجد مدير الاخبار في طوكيو يعتذر بشده، ويطلب مني اخذ الشرائط والتوجه بها الي التليفزيون التركي لنسخها، ثم اضاف انتم طاقم التصوير الوحيد في العالم الذي استطاع تغطيه الحدث، وبناءا علي ما ارسلتوه توجهت منظمه الصليب الاحمر الدوليه بنداء استغاثه لدول العالم، ونتج عن ذلك ان بدأت فرق انقاذ دوليه تتوجه لتركيا للمشاركه في عمليات الانقاذ، كما اخبرني ان التليفزيون المحلي التركي ارسل محطه اقمار صناعيه الي المنطقه المنكوبه واربع اطقم تصوير ولكنهم عالقين في الطريق الجبلي، لايستطيعون الوصول للمكان، ولهذا هم في احتياج لماده التصوير لاذاعتها في محطتهم التليفزيونية، ليطلع المسئولون علي الوضع ويقررون كم المساعدات التي يجب ارسالها، والاستعانه بالجيش التركي، فرجاءا الذهاب بالشرائط لهم لنسخها.
توجهت صباح اليوم التالي الي موقع الزلزال لاجد طاقم التصوير منتظر بالمطار في حاله اعياء من الارهاق وقله النوم، ولنعود جميعا الي انقره ليذهبوا جميعا الي النوم، بينما توجهت انا لمبني التليفزيون لارسال الماده المصوره، وعند عودتي مررت باحد الاسواق واشتريت ملابس جديده لطاقم العمل، لاننا غادرنا القاهره دون حقائب او فرصه لاخذ متعلقاتنا الشخصيه.
لم اجرؤ علي التواصل مع ايا منهم لاترك لهم فرصه الراحه، وتركت لهم رسائل بوجود ملابس جديده لارتدائها والتقابل في مطعم الفندق الثامنه مساءا لتناول العشاء.
داخل المطعم قال لي المراسل الياباني، ان الاداره في طوكيو سعيده ومقدره للمجهود الذي بذلناه، وانهم كانوا فخورين بانهم ظلوا لفتره ٤٨ ساعه، هم مصدر الخبر الوحيد لكل العالم، حتي البلد التي حدث بها الزلزال ثم اضاف، كما تعلم ان اليابان بلد معرض بصفه دائمه للزلازل، وهناك اهتمام حكومي وشعبي دائما بأي زلزال يحدث في العالم وتتم دراسته، ومن واقع ما ارسلناه، فان حجم الخسائر الضخم في زلزال تركيا لاتتناسب مع قوه الزلزال، وكان من المفروض ان تكون الخسائر اقل بكثير، ولهذا تطلب اداره التليفزيون بصفتها التليفزيون الرسمي لليابان المسئول امام البرلمان الياباني لخدمه الشعب، ان نعاود الذهاب لمكان الحدث ونبقي لفتره ١٠ ايام، وذلك لعمل تقرير تليفزيوني مطول، عن الحدث واسباب زياده الخسائر البشريه والماديه عما هو مماثل في اي مكان آخر علي مستوي العالم.
ابديت موافقتي وتواصلت مع القاهره لاخبارهم بطول مده بقائنا، ثم استأجرت مترجما من اللغه التركيه الي الانجليزيه واستأجرت فندقا اسفل الجبل الذي فوقه المدينه المنكوبه، واستأجرت سياره وكنا نقود ساعه ونصف ذهابا وساعه ايابا بصفه يوميه، تابعنا الامر مع مسئولين حكوميين، واهالي واطباء ومختصين، وخلصنا في النهايه بان سبب الخسائر الكبيره يعود اولا لعدم اتباع كود المباني الخاص بالمنطقه، لانها منطقه زلازل، حيث زاد ارتفاع المباني عن الحد المسموح، وقلت كثافه الاعمده الخرسانيه عما هو مطلوب لمواجهه الزلزال، اما لماذا سمحت الدوائر الحكوميه بذلك ومنحت تصاريح البناء، فكان السبب كما اخبرنا الاهالي، هو الفساد الحكومي، حيث ان تصريح البناء المخالف كان يصدر ازاء رشوه تقدر بين مائتي دولار والف دولار، طبقا للارتفاع او التوفير في الاعمده الخرسانيه.
في اليوم النهائي للتصوير عدنا الي الفندق بالبلد الصغيره اسفل الجبل في منتصف النهار استعداد للعوده لانقره في صباح اليوم التالي، فنزلت من الفندق لزياره المحلات الصغيره، وكانت مفاجأة لي ان اجد محلا قديما يبيع ويقوم باصلاح الساعات، وشاهدت عدد من ساعات الجيب الاوميجا القديمه، والتي كنت اهوي جمعها، فاشتريت ثلاثه منها بما تبقي معي من نقود، ثم ذهبت الي الفندق لاخذ كل ماتبقي من اموال مع طاقم العمل، واعود مره اخري لاشتري ساعتين، واعود للقاهره من رحله الزلزال بخمس ساعات مازلت احتفظ بها، وعندما وصلنا للمطار في انقره لم نجد معنا نقودا لشرب القهوه او الغداء، لانني انفقتها علي هوايه الساعات، ولم ينقذنا الا مندوب السفاره اليابانيه بتركيا، الذي جاء يودعنا وشكرنا، فطلب منه المراسل نقودا ووعدا بارسالها له عقب عودته القاهره، كما حكي له قصه الساعات، فاخرج مائتي دولار اعطاهم الي المراسل وقال مازحا، اعطيكم هذا المال ولكن مقابل ساعه اوميجا.