الأطباء من أكثر أصحاب المهن احتكاكا بمختلف فئات المجتمع، فأمامهم يرقد الجميع بغض النظر عن مستواهم الاقتصادى أو الاجتماعى يشكون أوجاعهم ويتطلعون للدواء. ومن خلال ذلك، يتواصل الطبيب مع نماذج بشرية متنوعة فيها المتعلم والمثقف، وفيها الأمى ومحدود الثقافة، وفيها أيضا أبناء الحضر والريف والصعيد والبدو. ولذلك، امتلك عدد من الأطباء حسا اجتماعيا مرهفا، وأتذكر أنه فى الخمسينيات والستينيات كان كبار الأطباء فى القاهرة لهم عيادتاين، عيادة فى وسط العاصمة أو أحد أحيائها الراقية، وأخرى فى حى شعبى ويقسم الطبيب وقته بين العيادتين. واهتم آخرون بالشأن العام، منهم طبيب الأشعة فؤاد محيى الدين، وطبيب الأسنان كمال الإبراشي، وطبيب الأطفال حسين كامل بهاء الدين.
وقرض آخرون الشعر، فكان منهم د.أحمدزكى أبو شادى مؤسس مدرسة أبولو الشعرية، ومتعدد المواهب د.إبراهيم ناجى الشاعر والموسيقى والمؤلف والمترجم. بينما انصرف بعضهم إلى الكتابة والأدب مثل مصطفى محمود، ويوسف إدريس، ونوال السعداوي، وأحمد شوقى الفنجري، ونبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق. استعادت ذاكرتى هذه الكوكبة من الأطباء الذين تجاوزوا اختصاصهم المهنى بمناسبة صدور مجموعة قصصية بعنوان «الألم والأمل.. مشرط الجراح وضفائر الدم» كتبها د. جمال مصطفى سعيد أستاذ جراحة الأورام بجامعة القاهرة والحاصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الطبية 1988، وصاحب الإسهامات والأبحاث العلمية المنشورة فى كبريات المجلات الطبية، ومؤسس صالون الجراح الثقافى من 12 عاما والذى انعقدت جلسته الرابعة والثمانون يوم 10 فبراير 2024.
تتضمن هذه المجموعة 27 قصة قصيرة صاغها المؤلف بأسلوب رشيق وصفه الكاتب الأريب أحمد الجمال فى مقدمته للكتاب بأنه «السهل الممتنع.. الذى يكون فهمه فى متناول الجميع ولكن يصعب الاتيان بمثله».تقدم كل قصة أحد النماذج الفريدة من مرضاه، والتى تمثل مختلف شرائح المجتمع المصري. عالجهم الجراح بمشرطه وحلل الأديب شخصياتهم بقلمه. لم تكن علاقة الطبيب بمرضاه علاقة سطحية، بل غاص فى أعماق نفوسهم وسعى لبث الطمأنينة لديهم وبعث الأمل فيهم. وعلى سبيل المثال، نجد حكاية المرأة الصعيدية «أم كرم» التى جاءته من أسيوط لعلاج زوجها من سرطان المثانة، ولبساطتها ومحدودية قدرتها المالية لم يحدثها عن تكلفة المستشفى وإجراء العملية، وفى إحدى المرات استمع إلى صوت غريب فى غرفة زوجها. وللدهشة تبين له أنها أصوات «4 فرخات بلدي» تنبعث من تحت سرير المريض، فلما سألها عن سبب وجود هذه الفرخات أجابته بانها تستخدم بيضها لشراء الأدوية من صيدلية د. جورج القريبة من المستشفى. كان من الواضح أن المرأة لم تكن تعرف أن ثمن الأدوية يفوق آلاف المرات ثمن بيض فرخاتها، فأسرع الطبيب الى الصيدلية ليشرح لصاحبها الموضوع وأن يضيف ثمن الدواء على حساب المستشفى، فرفض الثانى الاقتراح وقال: يادكتور جمال، ما أنا برضه عاوز أروح الجنة زيك، وانا مش هاخد ولا مليم من الست الغلبانة دي. ولكن الطريف كيف انتهت القصة فقبل خروج زوجها من المستشفى داعبها الطبيب وطلب منها أن تعطيه بيضة، فردت بصوت حازم وقاطع «لع». وعندما تساءل عن السبب أخبرته «عاوزاهم أنا… هأجطع بيهم تساكر الجطر واحنا راجعين أسيوط».
وفى المُقابل، حكاية مُختلفة تمامًا لسيدة جاءته مع زوجها، ومعها خطاب تحويل من مكان عملها وهو إحدى الوزارات المهمة فى مصر، فقام بعلاجها وإجراء العملية الجراحية المطلوبة حتى تم الشفاء. ثم قدمت إلى العيادة لطلب مقويات لها فطلب من الممرضة إعطاءها إياها، ثم جاءت مرة أخرى تطلب مقويات لزوجها فلما اعترضت الممرضة رفعت السيدة صوتها فطلب الطبيب من الممرضة إعطاءها ما تريده منعا للشوشرة، ثم قدمت مرة ثالثة لتطلب أقراص حديد لابنتها فما كان منه إلا استدعاء أمن العمارة لإخراجها من العيادة. جاء انتقام السيدة سريعا، فقرأ فى صباح أحد الأيام خبرا مؤداه: طبيب جراح مشهور فى باب اللوق يعتدى مع العاملين فى عيادته على مريضة تعانى أوراما سرطانية ويطردها بالقوة، وقامت المريضة بإبلاغ النيابة العامة.
استدعى وكيل النيابة الطبيب فشرح له الموضوع وان لديه ما يثبت روايته. غضب الطبيب كثيرا لهذا الموقف ولما كان يعرف الوزير المسئول عن عمل هذه السيدة، طلب مقابلته وروى له ما حدث، فطلب الوزير استدعاء السيدة وزوجها الذى يعمل فى نفس الوزارة، فوجئ الدكتور بأن الزوج الذى حضر معها ليس هو نفس الشخص الذى حضر إلى عيادته وكادت السيدة يغمى عليها عندما وجدت الطبيب. وخشى من أنه إذا تحدث فسوف يحدث فضيحة للسيدة، فأخبر الوزير أنه سوف يذهب إلى النيابة لاستكمال التحقيق فى الشكوى ولكن سرعان ما انتهت الحكاية بإبلاغ النيابة له بتنازل السيدة عن الشكوى.
وهناك نماذج أخرى مثل عم عبد القادر النوبى الذى عمل مع د. جمال فى أول عيادة له وقام بمهام التومرجى والممرض والسكرتير. نموذج الفنانة التى لم ترغب فى دفع تكاليف عملية تكميم المعدة التى أجرتها، فأعطت الانطباع بأنها سيدة بسيطة، مما دفعه إلى عدم مطالبتها بأى تكلفة ثم تبين له فيما بعد حجم ثرائها الهائل.
تحكى هذه القصص عن أصحابها بقدر ما تكشف عن جوانب شخصية المؤلف، فيحكى عن فضل والدته عليه، ونصيحتها له بالتواضع والابتعاد عن الغرور، وأنهاعلمته أن المال ليس كل شيء. ولا أجد خاتمة لهذا المقال أفضل من كلمات نجيب محفوظ التى وضعها د. جمال مصطفى فى صدر كِتابه: إذا ذهب القلب ذهبت الرحمة، وإذا مات العقل ذهبت الحكمة، وإذا مات الضمير ذهب كل شيء.
________________
نقلا عن الاهرام