تنحى جانبا ملقيا بنظره عبر النافذة للسماء داعيا ربه ليتخلص من همومه وإذ به يجد طائرة من ورق تتمايل بأحلام طفل يتحكم بها عبر خيط رفيع… اختطفه ذاك المشهد .. استرجع ذكريات البراءة وهو يركض وراء تلك الطائرة الهوائية والنسيم العذب يداعب خصلات شعره البني.. يا لها من لحظات جميلة يحن إليها كلما تعالت خيوط الطائرة.. فينخلع قلبه وهي توشك على السقوط.. كان مشاركا للطفل فزعه فيتخطف كفه ليضغط على قلبه تدريجيا … يا لها من علاقة طردية بين قلبه وقلب الطفل الحالم بأن تحلق طائرته في السماء… مزعجة تلك الدقات التي تصدر من عقارب ساعة الحائط المعلقة فوق رأسه.. مرهق ذلك الصوت … كلما أغمض عيناه من شدة التعب.. تختطفه آلة الزمن … فيسمع عتاب أمه له وهو طفل: ما فيش راجل بيبكي… امسح دموعك… إنت راجل!!!
- كانت كلمات الأم بمثابة مسؤولية تثقل الكاهل لا طاقة له بها.. فهو طفل.. وعلى الرغم من كل ذلك التأنيب.. كان يمسح دموعه خلسة مطأطأ الرأس إرضاء لأمه .. كان يتعجب عندما تصر أمه على أن يعيش حياة الكبار على الرغم من صغر سنه… لم يشفع له عندها تفوقه الدراسي.. ولا حفظه للقرآن الكريم.. دائما متفوق على أقرانه.. ومع ذلك لم يعِش طفولته.. مع أن أحلامه كانت بسيطة.. أن يلهث وراء تلك الفراشة البديعة الألوان لم يكن ليمسكها بل ليحلق معها في الهواء الطلق.
- كانت الحرية تسكن جناح تلك الفراشة.. هكذا كان يراها.. وكان يرى معها التحكم وكبت الحرية في خيط طائرة الورق المسيطرة على حركتها.. فما بين الجناح والخيط علاقة عكسية.
كانت لغة الصمت.. وفرشاة الرسم.. وكلمات أغنية يحبها.. حكاية عشق.. قرر بتناغم هذه القواسم المشتركة.. أن يرسم لوحة حتى يعلقها على جدار الخرس.. على أمل أن يداعبها شعاع ضوء مصباح مظلم.. نعم .. أقصد ضوء مصباح مظلم .. وفي أعلى اللوحة رسم زقزقة عصفور فقد صوته.. هل زقزقة العصفور تُرسم؟! بالطبع لا .. لكنه رسمها !!
اختنقت تلك التغريدات في جوف طائر كسير لا يتعدى حجمه راحة اليد.. فظن الصياد أن العصفور لم يعد ذو قيمة تذكر.. فهدم عشه بحجة أنه مبني على شجرة.. مخالف لكل قواعد البناء.. بل سلبوا منه الشجرة التي ظل يتابعها منذ كانت بذرة وحرموه من الاقتراب منها .. هل يعقل مثل هذا القول.. تمرد العصفور.. عندما رفض أن يغرد لذاك القناص الغادر.. وكأنه يقول: أيها الغاصب إن هدم عش العصفور احتلال لوطنه الصغير.. فلا وطن لعصفور لا يملك عشا.. سيرحل غريبا.. انتهت الحكاية.
وزاد الهم.. واختفت تلك الترانيم الجميلة التي كانت تسكن كل جزء من طبيعته الغناء.. لم يعد العصفور يغرد.. ولم تعد الشحرة ملكا له .. ولم تعد اللوحة ذات تفاصيل.. وقريبا سينطق الجدار الأخرس.. ما زال العصفور يحيا .. إلا أنه سيهاجر .. ويموت في غير ارضه.. تاركا شجرة التوت التي يراقبها الصياد متحديا الجميع.. بحجة أنه سيحصد منها القمح.
القت به آلة الزمن إلى حاضره، أفاق من غفوته وكأن في يده فرشاة ملطخة بدماء وردة كان يرسمها.. فلا وجود لطائرة الطفل ولا للفراشة ولا لحلمه الذي سرق بواسطة من يعتقد أن شجرة التوت سيحصد منها قمحا.. سيهاجر العصفور ومعه الحلم إلى أرض لا يعرفه فيها أحد مكسورا مقهورا .. أمر غريب.. عندما تعانق السنابل بحباتها الخضراء أغصان التوت.. وقد التف الناس بمعاولهم منتظرين نضج السنابل.. أمر غريبا حقا .. تناسوا تماما أن الشجرة تنتج للتوت وليست سنابل قمح..هو ليس هو .. هنا .. وقعت الفرشاة.. ومازالت اللوحة لم تكتمل.
- ربتت يد على كتفه .. انتفض ظنا منه أنها أمه جاءت لتعاتبه.. وإذ بملامح حادة لرجل يطلب منه شراء اللوحة والحلم وطائرة الطفل والفراشة.. طالبا منه ان يرحل مجردا حتى من الحلم .. أصبح الحلم جريمة يعاقب عليها .. تاركا الصياد وشجرة التوت.. لتتوالى سلسلة الاغتيالات من حلم إلى عصفور صغير لا يملك قوة مقاومة رصاصة الصياد المخترقة بسرعة الصاروخ.. إلى تغييب عقول وضمائر الناس التي اعتادت السبات العميق.. حينها أيقنت دونما إرادة منهم أن القمح سيتناثر من شجرة التوت البديعة.. أليست مفارقة عجيبة.. بلى.. يا للمفارقة العجيبة.. بلى.. هناك أوثق العلاقة.. ألسنا في عالم تتداخل فيه الحقائق والمتناقضات.. كلا.. بل أكثر من ذلك…. فلنقف عند حدود البراءة.. جميلة هي تلك اللوحة بغموض تفاصيلها وغرابة محتواها.. تبقى ألوانها الجميلة تشع بالأمل وتلك السنابل الخضراء تتناثر منها حبات القمح.. يالها من مفارقة عجيبة.. طفل.. طائرة ورق.. فراشة.. أحلام بريئة.. صياد.. شجرة توت.. وما زال الصياد يرسم الاحلام لطائرة الطفل ومستقبل العصفور .
- أخيرا شجرة التوت أنتجت .. قمحا !!؟!! أمر غريب.. هل بين الصياد وحصاد القمح من شجرة التوت علاقة.. وتستمر المفارقة العجيبة.
- ما زالت حقيبة سفره ملقاة على الأرض كالطائرة الذي سقط وسقطت معها احلام الطفل ، يظهر منها قرار لازالة منزله وتقريرا طبيا بوجوب تغيير قلبه .. صوت أمه يخترق الصمت : ما فيش راجل بيبكي… امسح دموعك… إنت راجل!!! ضحك حتى الثمالة .. ثم بكي متحديا عتاب الأم .. وما زال بين الضحك والبكاء يحيا .. وتستمر المفارقات العجيبة.