المراقب : وحدة الدراسات
ليس سرا أن أصوات المانية عديدة قد أرتفعت في العقدين الأخيرين ، ومع بداية الألفية الجديدة ، مطالبة بوضع حد للقيود المفروضة على العسكرة الألمانية ، وبعد مرور نحو سبعة عقود هي عمر ما عرف ب” الطابع التحريمي “،أي منع ألمانيا من بناء قوات مسلحة جديدة يمكنها عند لحظة معينة أن تكون الرقم الصعب في الداخل الأوربي أول الأمر .
على جانب أخر ، عادت الحركات اليمينية الألمانية المتشددة إلى الساحة ، بل إن البعض منها استطاع التسلل إلى داخل صفوف القوات المسلحة الألمانية ، وهذه بدورها ترى أن ألمانيا قد تعرضت لظلم شديد طوال العقود السبعة الماضية ، وأنه حان الوقت لأن يطفو على سطح أوربا والعالم جيش ألماني يليق بمقدرات الشعب الالماني .
والشاهد أن تصريحات الجنرال الألماني ” ميس ” قائد القوات المسلحة الالمانية ، قد وجدت ترحيبا كبيرا في صفوف الألمان ، وقد وصفت بأنها ” صادقة جدا “، بل وحمل الكثيرون الذنب للحكومات الألمانية خلال العشرين سنة الماضية ، وبخاصة مسالة تخفيض المخصصات المالية اللازمة لبناء قوات عسكرية كفيلة بملاقاة النوازل كما حدث مؤخرا مع بوتين .
في تعليقه الأخير ، بدا واضحا أن الشعور بالتقصير يعصف بالجنرال ” ميس ” لا سيما بعد أن فقدت المستشارة السابقة ميركل القدرة على التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعدما ضمت روسيا بقوة السلاح شبه جزيرة القرم عام 2014 ، وباتت الآن أمام إستحقاقات مشهد أكثر هولا متمثلا في غزو روسيا لأوكرانيا ، والإحتمالات المفتوحة لأن تنفتح شهية القيصر إلى غزو بعض دول البلطيق أو ما وراءها .
قبل ما صرح به الجنرال ” ميس ” ، بدا أن هناك ميلا واضحا من الكثير من الشباب الألمان من المعتدلين ، وقبل اليمينيين ، للإنخراط في سلك الجندية ، وإبراز الوعد الذي نصه :” أنذر نفسي لخدمة جمهورية ألمانيا الإتحادية بوفاء والدفاع بشجاعة عن حق الشعب الألماني وحريته “.
هذا الوعد الذي يردده الشباب الألماني أمام عموم الألمان قبل إلتحاقهم بالخدمة العسكرية ، لقي تشجيعا من كافة الأطراف في الداخل الألماني ، بدءا من مسؤولي وزارة الدفاع ، ومن أطراف فاعلة قوية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي ، والحزب الإشتراكي الديمقراطي ، وحتى من مسؤولين دينين كنسيين مثل الأسقف البروتستانتي العسكري زيغورد ريك ساند .
نهار الأحد 27 فبراير شباط الماضي كان المستشار الألماني أولاف شولتز ، يعلن عن أن بلاده ستخصص 100 مليار يورو لقواتها المسلحة ، ومضيفا :” من الواضح أننا بحاجة إلى زيادة الإستثمار في أمن بلدنا من أجل حماية حريتنا وديمقراطيتنا “…هل هي بداية جديدة لجيش ألماني مغاير عما جرت به المقادير منذ العام 1955 وحتى الساعة ؟.
في واقع الأمر بدأت الرغبة الألمانية في العودة عسكريا إلى العالم قبل أزمة أوكرانيا بنحو عقدين من الزمن تقريبا ، كان ذلك في العام 1994 ، عندما طالب الحلفاء من ألمانيا المشاركة في عمليات عسكرية خارج البلاد ، وساعتها كان الدستور الألماني هو العقبة في الطريق إذ يحصر مهمة الجيش داخل البلاد فقط .
في ذلك الوقت بدا الخلاف واسعا حول شرعية المشاركة في عمليات عسكرية خارج الأراضي الألمانية ، إلى أن تدخلت المحكمة الدستورية وقضت بشرعية مشاركة الجيش الألماني في عمليات عسكرية خارج البلاد ، بشرط أن يتم ذلك في إطار المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو حلف الناتو ووجوب موافقة البرلمان على تلك العمليات الخارجية ، وهكذا بدأ توجه جديد في السياسات الخاصة بجيش جمهورية ألمانيا الإتحادية .
ولعله من المثير أن تنادي دول أوربية أخرى كانت ضحية لألمانيا قبل سبعة عقود ، بإعادة تسليح الجيش الألماني ، فعلى سبيل المثال تحدث وزير خارجية بولندا عام 2011 بقوله :” إن تخوفي من عدم تحرك ألمانيا ، أكثر من تخوفي من قوتها “، وإن دل ذلك على شيئ ، فإنه يدل على أن العديد من دول أوربا الشرقية تتمنى أن يكون هناك جيش ألماني قوي لا يتردد في الدفاع عن الحلفاء ، الأمر الذي ساهمت الأزمة الأوكرانية في تعزيزه ، وإعتبار الجيش الألماني ركيزة أساسية ضمن ركائز الأمن الأوربي .
والثابت أن فرنسا لم تعد خائفه من حضور جيش الماني قوي ، وهذا ما يعبر عنه المحللي السياسي والباحث في جامعة السوربون ” هانز شتارك ” بقوله :” إن فرنسا تريد مشاركة ألمانيا في المهام العسكرية في إفريقيا وفي الشرق الأوسط “، ويشمل ذلك مهمات قتالية و ” إرسال قوات برية وليس قوات حفظ سلام فقط .
يقول ” شتارك ” إن فرنسا لا تتخوف من الجيش الألماني ولا ترى فيه تهديدا لأنها تعتبر أن جيشها أقوى من نظيره الألماني .
هل أدرك الأوربيون الآن الخطأ الكبير في أن تستمر ألمانيا قلبا إقتصاديا للقارة الأوربية من غير قوة عسكرية تتحمل جزءا يليق بها من الأعباء الأمنية في القارة التي باتت تتهددها المخاطر .
ولعله من نافلة القول أن الإتحاد الأوربي اليوم يشعر برغبة كبيرة في أن تقوم ألمانيا بدور عسكري، لا سيما بعد إنسحاب بريطانيا التي تمثل الثقل الأكبر أوربيا على صعيد العسكرة ، ولا يتبقى سوى التساؤل :” هل واشنطن تقف حجر عثرة أمام المانيا أم العكس من ذلك ؟