المراقب : خاص بوحدة الدراسات
حكما ما جرى ويجري على صعيد الأزمة الروسية – الأوكرنية ، لن تنتهي مفاعليه بعد وقف إطلاق النار ، بل ستمتد إلى ما هو أبعد زمنيا ، وجغرافيا ، وربما ديموغرافيا كذلك .
تبدو الأزمة الروسية وكأنها تعود بالعالم إلى زمن العسكرة مرة جديدة ، والمثير أن القيادة الروسية ، تظهر في الداخل ميولا لتشجيع فكر الحرب والميل إلى حل النزاعات عن طريق القوة ، أما في الخارج فقد بات العالم مهموما وعما قريب محموما بالسعي في طريق إعادة التسلح .
عسكرة الداخل الروسي في واقع الأمر من الواضح أنه كان مخطط لها ، وحتى قبل إندلاع الأزمة الأوكرانية ، فقد فقدت روسيا الثقة في الغرب منذ زمان وزمانين ، والجميع يتذكر مقولة القيصر بوتين :” من لا يتذكر ما جرى للإتحاد السوفيتي من تفكيك ليس له قلب “.
أدرك الروس أن حلف الناتو غير موثوق ، وليس له مصداقية ، لا سيما بعد أن تنكر قادته لفكرة عدم التوسع أو الإمتداد شرقا ، وجاءت تجربة أوكرانيا الأخيرة لتؤكد نوايا الحلف ، كما تم التأكد منها بالفعل مع جورجيا عام 2008 .
من هذا المنطلق بدا وكأن الروس يعملون على تلقين الأجيال الروسية فكر القتال والمواجهة منذ الصغر ، إستعدادا للنزالات القائمة والقادمة .
في أواخر ديسمبر كانون الماضي كانت وسائل الإعلام الروسية والعالمية تلفت الأنظار إلى تجربة جديدة تجري على صعيد المدارس الروسية ، وفي كافة أنحاء البلاد ، فقد عقدت مسابقات تضمنت أنشطة عسكرية مثل قراءة الخرائط وإطلاق النار وإختبارات في تاريخ البلاد .
المثير أن الكرملين عينه هو من قام بتمويل هذه المسابقات ، كما منح الفائزون جوائز وهم يرتدون ملابس عسكرية في إحتفال اقيم خارج موسكو .
لم تكن النيويورك تايمز الأمريكية بعيدة عن رصد هذا المشهد ، وقد نقلت عن سفياتوسلاف أوميلتشينكو ، وهو عضو سابق في القوات الخاصة التابعة لجهاز الأمن والإستخبارات الروسي القديم “كي.جي.بي”، ومؤسس مجموعة ” فيمبل ، التي تدير هذه المسابقات قوله :” يدرك الآباء والأطفال أن هذه القوقعة من العدوانية من حولنا تضيق ، وتتصلب ، ولهذا فإننا نبذل كل ما في وسعنا للتأكد من أن الأطفال يدركون ذلك ، ونجعلهم مستعدين للذهاب والخدمة “.
عسكرة المدارس الروسية ليس خطوة عشوائية جرت قبل غزو أوكرانيا ، وإنما فكرة تتسق ورؤية القيادة السياسية الروسية التي تؤمن فيها وتعتقد بها الحكومة الروسية منذ سنوات وهي أن ” الوطن الأم محاط بالأعداء “، وتذكيرا بأن روسيا العظمى يمكن أن تضطر مرة أخرى إلى الدفاع عن نفسها كما فعلت ضد النازيين في زمن الحرب العالمية الثانية “.
يعن للمرء التساؤل كيف لهذه الأجيال أن تمضي مستقبلا ، وهل سيكون للسلام وطروحاته دالة عليها ؟
التساؤل يحمل شقا أخرا ينبغي التوقف أمامه ، وهو وجهة نظر تحترم في كل الأحوال ، وقد أشار إليها الرئيس بوتين بقوله إن ” روسيا لا تريد إراقة الدماء ، ولكنها مستعدة للرد بتدابير عسكرية تقنية ، على السلوك العدواني الغربي “.
حكما ستنشأ عما قريب أجيالا روسية ترى من حولها سباق تسلح أكثر ضراوة مما جرت به المقادير في زمن الحرب الباردة ، وإن إتسم بذكاء إقتصادي وتكنولوجي كبيرين ، بمعنى أن روسيا لم تنسق وراء سباق تسلح كمي يدخلها في دائرة إستنزاف مالي كما حدث للإتحاد السوفيتي من قبل ، ولهذا نرى التسليح الروسي الحديث يتمحور حول صواريخ فرط صوتية لا تصد ولا ترد ، وغواصات غير مأهولة بالبشر ، قادرة على تغيير مسارات المعارك العسكرية ، والإهتمام بتسليح الفضاء .
هل الصراع الأخير ما بين روسيا وأوكرانيا في الظاهر ، أو بين روسيا والناتو في الخفاء، هو من أشعل عسكرة روسيا والعالم ، أم أن الغرب بدوره قد عزز ذلك الإتجاه ؟
يحاجج الروس بأن الولايات المتحدة الامريكية وفي معيتها عدد من الدول الأوربية ، هي السبب الرئيس وراء إطلاق شرارة العسكرة حول العالم من جديد ، فعلى سبيل المثال واشنطن هي من أنشات حلف أوكوس مع بريطانيا وإستراليا بهدف تهديد الحضور الروسي والصيني في مياه المحيط الهادئ .
كما أن الولايات المتحدة عينها ، هي من بلور تحالف كواد مع اليابان والهند وكذا استراليا ، تحت مظلة الدولة الديمقراطية ، وفكرة مواجهة الأنظمة الشمولية ، في حين أن الهدف الرئيس في واقع الأمر هو التحضر عسكريا لحصار الصين وروسيا .
عسكرة العالم إذن ليست روسيا هي السبب الوحيد والرئيس فيها ، والأمر لا يقتصر عليها في مجال إضفاء المزيد من ملامح العنف على العالم ، فالصين بدورها ، ولأنها تدرك الأبعاد الإستراتيجية لخطوط الطول والعرض الأمريكية ، والتي تسعى لحصارها والتضييق على فرص صعودها القطبية ، تسعى بدورها في مدارات التسليح النووي غير المسبوق ، ومن آية ذلك ، الحديث عن حياز عشرة آلاف رأس نووي خلال العقد الحالي ، ما يعني قدر يوازي ما في الترسانتين النوويتين الروسية والصينية معا .
العسكرة في حاضرات أيامنا باتت أوربا تستشعرها ، ومن قبل المواجهة بين موسكو وكييف ، والمثير هنا هو أن الأوربيين ربما بلغوا ملء الزمان الذي يتحتم فيه مغادرة معسكر الناتو ، بعد أكثر من سبعة عقود من التبعية الأمريكية ، وما طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، والخاص بإنشاء جيش أوربي الإ بداية زمن الإنفصال .
أوربا المعسكرة باتت تعبر عنها ألمانيا على نحو خاص ، والتي رصدت ميزانية أولية تبلغ مائة مليار يورو ، بهدف إعادة تأسيس قواتها العسكرية ، وربما سيستمع العالم عما قريب ، عن المانيا النووية ، غير المكتفية بالقواعد الأمريكية على أراضيها ، وفي زمن إرتفاع صوت العرقيات ، وزيادة المد القومي والآري بين الألمان .
المشهد نفسه ومن غرائب الأمور ، وصل إلى حدود اليابان والتي تشهد ثورة شبابية على قيود ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وبلغت الشطحات العسكرية مؤخرا حد مطالبة رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي ، بنشر رؤوس نووية ولو أمريكية على الأراضي اليابانية .
عسكرة العالم هي أزمة العقود القادمة، والنتيجة الحتمية توصل إليها أديب روسيا الكبير انطوان تشيكوف في إحدى قصصه ، إذ قال :” حين تقرا في الفصل الأول من رواية ما أن هناك بندقية معلقة على الحائط ، فإنه في غالب الأمر ستنطلق في الفصل الثالث “.
إلى أين يمضي عالمنا المعاصر ؟ إلى قراءة قادمة بإذن الله .