وحدة الدراسات
في إبريل الماضي ، وخلال مشاركته في منتدى استثماري عقد في العاصمة الروسية موسكو ، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤكد أن روسيا سوف تتجه نحو الإستغناء عن الدولار في تعاملاتها ، لكن ذلك لن يحدث على حساب مصالحها .
وبمزيد من التفصيل قال بوتين :” لا نسعى للتخلي عن الدولار ، هو الذي يبتعد عنا وأولئك الذين يتخذون قرارات العقوبات الإقتصادية الخاصة بهم يطلقون النار على أسفل بطونهم. وعدم استقرار الحسابات بسبب الدولار يخلق رغبة في الإقتصادات العالمية للعثور على عملات أجنبية إحتياطية بديلة وإنشاء أنظمة مصرفية مستقلة عن الدولار “.
هل استخدم بوتين لغة سياسية دبلوماسية حاول من خلالها المناورة والمداورة ؟
مؤكد ذلك كذلك ، إذ أن هدفه الرئيس هو الخلاص من أي تعاملات بالدولار مع الغرب ، والسعي لكسر هيمنته التي أزعجت روسيا بالعقوبات .
لم تكن تصريحات بوتين مجرد مناوشات ، بل سبقتها بالفعل خطوات عملية على الأرض ، ففي أغسطس 2022 ، أعلنت روسيا دراستها شراء عملات دول صديقة مثل الصين والهند وتركيا للإحتفاظ بها ضمن صندوق الثروة الوطني ، بعد أن خسرت قدرتها على شراء الدولار واليورو ، بسبب العقوبات التي يفرضها الغرب على موسكو جراء الحرب مع تركيا .
في هذا التوقيت ، قال البنك المركزي الروسي ، أن سياساته النقدية للفترة ما بين 2023 و 2025 ، تمضي لجهة إمكانية تطبيق آلية لإعادة رفد صندوق الثروة الوطني ، البالغ حجمه نحو 155 مليار دولار ، بعملات للدول الصديقة من اليوان والروبية الهندية والليرة التركية وغيرها .
يعن للقارئ أن يتساءل :” هل كانت الحرب الأوكرانية السبب الرئيس في تفكير روسيا الإستغناء عن الدولار الأمريكي ؟
الحادث أنه قبل أن تنطلق نيران المدافع الروسية الأوكرانية ، بات الروبل الروسي يحتل حيزا معتبرا من التعاملات التجارية بين روسيا وشركائها التجاريين ، ففي 2021 تمت تسوية 53.4% من جميع المدفوعات من الهند إلى روسيا بالروبل بينما استحوذ الدولار على 38.3% فقط . وعلى الجانب الروسي ، فإن اليوان مثلا استحوذ على ثلث عمليات تسوية المدفوعات من روسيا إلى الصين في نفس العام .
هل تقودنا هذه الجزئية بنوع خاص إلى الحديث عن القوة الإقتصادية القادمة والتي يمكنها وعن حق إصابة الدولار في مقتل ؟
أدرك الصينيون مبكرا جدا أن هناك سلاح ردع أخر بخلاف سلاح الردع النووي ، إنه سلاح الردع النقدي ، وليس أدل على ذلك من قدر الإستثمارات الصينية في بنك الإحتياطي النقدي الأمريكي .
من هذا المنطلق كان الحرص الصيني على التمدد والتوسع ، ومراكمة الإحتياطيات النقدية من الدولار واليورو ، من الإسترليني واليوان والروبل وبقية العملات العالمية .
جاءت العقوبات الإقتصادية الأمريكية والأوربية على روسيا ، لتدق جرس إنذار خطير بالنسبة للصينيين ، الذين يتوقعون معركة قريبة مع الولايات المتحدة الأمريكية ، سواء كانت جزيرة تايوان هي السبب ، أو النفوذ في بحر الصين الجنوبي ، وكأن ” عقدة ثيؤسيديديس ” قدر مقدور في زمن منظور .
في هذا السياق بدا واضحا أن الصين تسارع الخطى، وبصورة غير مسبوقة ، لإنهاء هيمنة وسطوة الدولار على مبادلاتها مع العالم الخارجي .
هنا كان من الطبيعي أن تطلق بكين ما عرف باسم ” بورصة شنغهاي “، والتي يتم فيها تداول عقود النفط بالعملة الصينية اليوان ، أعتبارا من 2019 ، الأمر الذي شكل ضربة قوية لإحتكار نظام ” البترودولار ” لصالح نشوء نظام ” البترويوان “.
وقعت الصين بالفعل إتفاقيات مع روسيا وتركيا وإيران والهند ودول أخر لتعزيز تبادلأتها التجارية بالعملات الوطنية بدلا من الدولار .
هل تهيئ الصين بنيتها الإقتصادية الداخلية كذلك للتعامل باليوان عوضا عن الدولار ؟
بحسب صحيفة ” فاينانشيال تايمز ” البريطانية ، فإن الصين لديها اليوم أكبر خطة لتقليل إعتمادها على الدور بالنظر إلى الرقم الذي تمثله في مشهد التجارة العالمية ، وذلك من خلال تهيئة البنية المالية التحتية التي تسمح في نهاية المطاف باستخدام العملة الصينية في العمليات التجارية بدلا من الدولار .
هل بات اليوان منافسا للصين ولو على إستحياء اليوم ، ثم ندا قويا في الأسواق العالمية عما قريب ، بل قريب جدا ؟
ربما يكون الأمر في حاجة إلى المزيد من الوقت ، لكن بحال من الأحوال فإن إعتماد خطوة اليوان كعملة مقاصة سيخفف جزئيا على الصين والمتعاملين معها تحمل فاتورة التبعية المالية والنقدية للسياسة النقدية الأمريكية ، وإن كان ذلك سيفرض على الصين المزيد من التحديات لتلبية احتياجات البلدان الراغبة في الدفع بعملتها المحلية .
هذه الجزئية ربما تمثل كعب أخيل في جسد العديد من الدول بل والقارات ، مثل القارة الإفريقية من ناحية ، وقارة أمريكا اللاتينية من ناحية اخرى .
الأفارقة من جهتهم سئموا من الفوقية الأمريكية المنحولة ، والمرتبطة بأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان ، ولهذا يفضلون من يقايض موادهم الأولية بعملات أخرى خارج نطاق الدولار المذل للكثيرين منهم .
فيما دول أمريكا اللاتينية ، فغالبيتها تجاهد للخروج من حالة الأسر التي تعيشها في ظل الهيمنة الأمريكية والتي تعتبر كافة دول القارة ، خلفية جغرافية مهتمها تقديم الخدمات اللوجستية ،وتوفير المواد الأولية للولايات المتحدة ، مالئة الدنيا وشاغلة الناس .
هل هي بدايات نهاية الدولار الذي ساد طويلا ؟