ناجح ابراهيم
قبل أن يستقبل العالم شهر رمضان هذا العام إذا بروح الداعية السكندرى الشهير / أحمد المحلاوى تعانق السماء لتودع الدنيا وتستقبل الآخرة عن عمر جاوز التسعين عاما، قضى معظمها فى الدعوة إلى الله، عاش فيها زاهدا ومات كذلك.
والملفت للنظر أن الشيخ المحلاوى ولد يوم عيد الأضحى عام 1925 وتوفى فى استقبال رمضان عام 2024، تخرج فى كلية الشريعة قسم القضاء الشرعى عام 1957 وعين إماما وخطيبا بالأوقاف فى مسجد سيدى جابر ثم فى مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، وهو من أهم مساجد الإسكندرية وأعرقها وقد بناه الملك فاروق تخليدا لجده أحد رموز العسكرية المصرية العظام إبراهيم باشا الذى لم يهزم فى معركة قط.
عاصر ثلاثة رءوساء ولكن قصته المثيرة كانت فى عهد الرئيس السادات حيث علا نجم الشيخ المحلاوى بعد معارضته الشديدة له بعد توقيعه لمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل.
الحقيقة أن الشيخ المحلاوى كان مؤيدا وداعما للرئيس السادات فى سنوات حكمه الأولى لأن السادات أعطى قبلة الحياة للدعوة الإسلامية وأطلق سراح المعتقلين الإسلاميين، وكان الشيخ المحلاوى مع عدة علماء سكندريين يصدرون بيانات التأييد هذه باسم اتحاد علماء المسلمين بالإسكندرية.
ولكن بعد معاهدة كامب ديفيد انقلب المحلاوى إلى معارض شرس ضمن مجموعة من المعارضين من جميع التيارات والاتجاهات سواء يسارية أو اشتراكية أو ليبرالية أو حتى مسيحية فضلا عن أغلبية الحركات الإسلامية وقتها.
كان المحلاوى يصف المعاهدة بأنها خيانة للعرب وللقضية الفلسطينية وانتقاص من دور مصر الريادى.
كان فكر السادات يختلف عن فكر هذه المجموعات،كان يريد استعادة أرضه «سيناء» من الإسرائيليين قبل أن تجف دماء جنودهم وتبرد رغبتهم فى السلام، وكان يريد شيئا مماثلا لذلك مع سوريا والفلسطينيين،كان رجل دولة مخضرم يسعى للممكن لا المستحيل، والمحلاوى رجل دعوة يسعى للمطلق.
كان المحلاوى أشد شراسة فى المعارضة من الشيخ حافظ سلامة بطل السويس الحائز على نجمة سيناء والذى انضم للمعارضة وجاب مصر كلها تسويقا لرأيه، وكذلك الشيخ عبدالرشيد صقر فى القاهرة.
كانت معارضة المحلاوى أقسى لأنه كان يستخدم السخرية كوسيلة قوية لمعارضة السادات فضلا عن جماهيريته الواسعة فى الإسكندرية. كان المحلاوى ثائرا أكثر منه واعظا ومربيا، كانت كلماته أشبه بالرصاص، كان المنبر يهتز تحت وقع كلماته، لم يتحمل السادات هذه المعارضة وخاصة وهو مقدم على الخطوة الأخطر فى المعاهدة وهى تسليم سيناء لمصر، ورفع العلم المصرى على العريش.
قرر السادات التحفظ على كل الأطياف المعارضة لكامب ديفيد ومعهم مثيرو المشكلات الطائفية.
قبض على المحلاوى بعد محاولات لإثنائه عن الخطابة فى مسجده فى الجمعة اللاحقة وبعد اقتناع المحلاوى للمنطق الأمنى بالتهدئة، جاء شباب الإسلاميين من تلاميذه وأقنعوه بعدم المهادئة والاستمرار فخطب جمعتين ساخنتين كالنار الموقدة رغم محاولات منعه وكان السادات قد قرر يزور الإسكندرية وقتها، فجاء قرار الاعتقال فورا. خطب السادات بعدها فخصص قرابة نصف الساعة ليتحدث عن المحلاوى خارجا عن وقاره المعتاد وما يليق بمنصبه الرفيع قائلا: «الراجل بتاع الإسكندرية الخطيب الذى ينال منى ومن بيتى، أهو مرمى زى الكلب فى السجن، ولن أرحمه».
هذه العبارة أضرت بالرئيس السادات أكثر مما نفعته، فقد أشعلت مثل هذه الكلمات النار فى نفوس شباب كثيرين.
وبعد موت السادات بفترة أنصف المحلاوى السادات فقال فى حوار له بالمصرى اليوم «عهد السادات كان أفضل من مبارك، ونفى تعرضه للتعذيب فى عهد السادات وقال: لم تكن هذه سياسة السادات ولم يكن من طبعه الانتقام الجسدى أو التشفى من خصومه، لكنه لم يكن يريد أن يهتز مركزه بعد أن أخذه سلطان الغرور، وقال: إن السادات أقدم على اعتقالات سبتمبر حتى يتمكن من استرداد سيناء».
وقد قضى المحلاوى وقتها فى السجن فترة أطول من التلمسانى وعبدالرشيد صقر، وحافظ سلامة رحمهم الله وعلل بنفسه السبب فى ذلك فى حوار سابق مع المصرى اليوم قائلا: كانوا يبحثون عن نوع من الملانية وكانت ردودى ناشفة. المحلاوى رغم تمكنه وتضلعه من العربية كشأن كل الأزهريين من جيله إلا أن أسلوبه كان يتمتع بالبساطة يفهمه الجميع، واضحا لا يلتبس على أحد، لا يستخدم التقعر ولا التكلف، ولا يحب السجع الممل ولا تنميق الحديث بغير ضرورة، يدخل مباشرة فى الموضوع.
أفضل ما فى الشيخ المحلاوى زهده وعفته فقد نأى بنفسه طوال حياته عن مفسدات الدعوة ومغريات الدعاة، لم يضبط يوما وقوعه فى خلل فى باب الأموال ولا النساء أو يتكسب من وراء دعوته، فقد عرف مئات الأثرياء من تلاميذه فلم يطلب منهم شيئا، وعاش فقيرا زاهدا ومات كذلك.
له تلاميذ كثر لا يحصون، جاب مصر كلها فى كل المؤتمرات الإسلامية.
من أشهر تلاميذه د/ عبدالعزيز الرنتيسى الذى قاد حماس لعدة أشهر واغتالته إسرائيل مثل غيره ممن اغتالتهم من قادة حماس وفتح، فضلا عن آلاف التلاميذ الآخرين.
كان الأثرياء من تلاميذه ومريديه يخطبون وده ولو أشار لأحدهم إشارة بسيطة لأعطاه وزاده،لكن سيرته فى الزهد والورع كان مشهودا بها، فنأى بنفسه عن زينة الحياة الدنيا.
كان بسيطا جدا فى حياته، يدخل عليه الجميع دون «برستيج» أو تكلف شأن الدعاة الصادقين.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن الدعوة الإسلامية خير الجزاء.
_________________________
نقلا عن الشروق