المراقب : وحدة الدراسات
يوما تلو الأخر تتضح معالم أزمة عميقة، لا نغالي إن قلنا أنها لا تقل عن إشكالية إنتشار الاسلحة النووية حول الكرة الأرضية، وقد بلغ من شأن المخاوف أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أتخذ قرارا بالإجماع يدعو المجتمع الدولي إلى إتخاذ تدابير وقائية ورقابية فيما يتعلق بتلك التقنية الخطيرة .
يقول الراوي أننا وفي منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، نعيش زمن الذكاء الإصطناعي AI أي البرنامج الحاسوبي شديد التطور الذي يحاكي السلوك البشري أو التفكير الإنساني، ويمكن تدريبه على حل مشكلات معينة ، وهو مزيج من التعليم الآلي والتعلم العميق .
أما ما لم يقله الراوي عينه، فمتعلق بما سيعرف عما قريب جدا، وربما قبل نهاية هذا العقد بال SAI أو ” الذكاء الإصطناعي السوبر “، وفيه يمكن للبرامج الكمبيوترية أن تفكر بذاتها، وتتواصل مع بعضها البعض، وكما في أفلام الخيال العلمي، ربما ستصل عند لحظة بعينها إلى التواصل بينها وبين بعضها البعض، لتصل إلى مرحلة تهميش الإنسانية، أو إفناء البشرية.
في أكتوبر تشرين أول من عام 2019 ، نشرت مجلة ” أتلانتيك ” الأميركية الشهيرة، ملفا مثيرا جدا جاء تحت عنوان ” بلا ضمير أو فلسفة أو أخلاق …كيف سيغير الذكاء الإصطناعي شكل المعرفة والعالم ؟
الفكرة الرئيسية لملف الأتلانتيك ، تدور حول المواجهة الأخلاقية والفلسفية لثورة لا يمكن إخمادها أو الإنقلاب عليها، كما أن محاولات وضع حد لها قد تسلب المستقبل ذلك الجانب من الطبيعة البشرية الأقدر على مواجهة تبعات أختراعاته .
هل نحن أمام معضلة :” لا تحارب الحقائق بل تعامل معها “؟.
غالب الظن أنه بات علينا أن نقبل فكرة أن الذكاء الإصطناعي لابد أن يزداد تعقيدا وانتشارا، وأن نتساءل حول الكيفية التي سينعكس بها تطوره على إدراك وبصيرة وتفاعل البشر، ومدى تأثيره على ثقافتنا وتاريخنا في نهاية المطاف .
غير أن الحقيقة المخيفة في المستقبل القريب للذكاء الإصطناعي، وربما قبل الوصول لعتبات السوبر منه ، هو قدرة تقنيات هذا النوع من التكنولوجيا على التعلم والإستفادة من تجاربها الخاصة، خلافا للبرمجيات التقليدية ، التي لا يمكنها سوى تنفيذ المنطق البشري .
هنا يبدو التحول المتزايد في تحليل وتمييز البيانات من الإنسان إلى الآلات ، مظهرا واضحا من مظاهر ثورة الذكاء الإصطناعي، لكن التساؤل الذي لابد من طرحه :” هل هي ثورة تمثل نعمة للبشرية، أم ستضحى ثورة تجلب نقمة على النوع البشري في الحال والإستقبال ؟
كان التفكير ومن ثم الذكاء العقلي، هو قضية البحث الفلسفي منذ بدايات التساؤلات الفلسفية في زمن أرسطو وافلاطون ، وصولا إلى ديكارت وبيرغسون ، حتى وإن لم يتمكنوا من الإتفاق على تعريف موحد لمعنى ومبنى الذكاء، ثم جاء زمن الذكاء الإصطناعي ليضع العالم على عتبات تساؤلات إبستمولوجية ، أي تعريفية عن ما هية هذا الذكاء ، وهل هو واع قادر بالفعل على محاكاة الفكر البشري أم لا ؟
من الفلاسفة المعاصرين الذين أهتموا بمساءلة هذه الإشكالية بنوع خاص، الفيلسوف الأميركي ” هوبرت دروفيس”، والذي رأى من بعيد مآلات الأزمة، فقد أخرج للعالم في نهاية السبعينات كتابه المثير للتفكير :” ما لاتزال أجهزة الكمبيوتر غير قادرة على فعله “.
في صفحات هذا العمل الشيق تبدو الخلاصة أن الذكاء الإصطناعي لا يستطيع محاكاة الفكر البشري ، لأن الآلة لن تكون قادرة على القيام بالوظائف العليا التي يقوم بها البشر على نحو كامل ،مادام أن العنصر البشري هو من يقرر.
تبدو رؤية “دروفيس” تقدمية، لكن هناك حكما ما ينقصها، فالآلة ومهما بلغ من قدرتها، ستبقى مفرغة في جميع الأحوال من القدرة الوجدانية، والإيمانية، بمعنى مفاعيل الروح الساكنة النفس البشرية، والروح تحديدا من أمر ربي، فلا يمكن لمخلوق أن يهبها لأخر ، وغالب الظن أن هذا المنطلق هو الذي دعا البابا فرنسيس، لأن يصدر رسالة اليوم العالمي للسلام، والذي يقع في الأول من يناير كانون الثاني الجاري، حول الذكاء الإصطناعي، وإن أختار زاوية تتسق والكائن البشري الذي خلقه الله في أحسن تقويم .
جاءت رسالة فرنسيس تحت عنوان ” الذكاء الإصطناعي والسلام”، وفيها اشارة إلى أن التقدم الملحوظ الذي حققته تكنولوجيا المعلومات الجديدة، وخاصة في المجال الرقمي ، إنما هي فرص مدهشة ، وفي الوقت نفسه مجازفة خطيرة ، ولها آثار جدية في السعي لتحقيق العدل والوئام بين الشعوب .
تطرح رسالة الحبر الأعظم تساؤلات جوهرية ملحة عن علاقة الإنسان بالذكاء الإصطناعي من عينة ما هي العواقب في المدى القريب والبعيد للتكنولوجيات الرقمية الجديدة. وماذا سيكون تأثيرها على حياة الأفراد والمجتمع وعلى الإستقرار الدولي والسلام ؟
الرسالة تضعنا أمام حقيقة صادمة وهي أنه :” لا يمكننا أن نفترض بداهة أن تطور الذكاء الإصطناعي سيقدم مساهمة مفيدة لمستقبل البشرية وللسلام بين الشعوب . ولن تكون هذه النتيجة الإيجابية ممكنة إلا إذا أثبتنا أننا قادرون على التصرف بمسؤولة وبإحترام القيم الإنسانية الأساسية مثل ” الشمولية والشفافية والأمن والعدالة والسرية والثقة “.
هل الإنسانية في مواجهة ” برومثيوس ” جديد، يخطف النيران من موكب الألهة، بما يجعله قادرا على إنارة العالم أو حرقه مرة واحدة؟
يضحى من الطبيعي القول أن التوسع الهائل في التكنولوجيا يجب أن يكون مصحوبا بالتدريب الكافي على المسؤولية في تطويرها ، سيما إذا كانت الحريات والسلام قيم كونية معرضة للتهديد عندما يستسلم البشر لتجارب الأنانية والمصلحة الشخصية والجشع في الربح والتعطش إلى السلطة .
في مداخلة ذات قيمة، تعرضت المديرة العامة لمنظمة اليونسكو، أودري أزولاي، لمعضلة الذكاء الإصطناعي ، وعندها أنه يمكن إعتباره فرصة رائعة لتحقيق أهداف جدول الأمم المتحدة لعام 2030 ، غير أنها بدورها ترى أن الأمر يستلزم معالجة المسائل الأخلاقية التي يطرحها على الفور .
وبمزيد من الإيضاح ترى أن الذكاء الإصطناعي فرصة حقيقية تساعد على التقدم بأكثر سرعة نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فهي تسمح بتقييم أفضل للمخاطر، وتحسين الاستشراف، وتوسيع نطاق تقاسم المعارف .
لكنه من وجهة نظرها يشكل أيضا تهديدا، لأن تعميم الآلية والرقمنة يحدثان أختلالات جديدة، وقد يتسببان في الحد من التنوع في الصناعات الثقافية، وفي إضطراب سوق العمل والتهميش وتعميق التفاوت بين المتمتعين بالتكنولوجيا الحديثة والمحرومين منها .
ولعله من بين أهم من الأصوات التي لفتت إنتباه الإنسانية إلى ماورائيات الذكاء الإصطناعي ، يجيئ الفيلسوف السويدي ، نيكولاس بوستروم ، والذي يعمل بروفيسورا ومديرا مؤسسا ” لمعهد مستقبل الإنسانية “، في جامعة أوكسفورد البريطانية .
أشتهر بوستروم عالميا بأبحاثه في المخاطر الوجودية للتقنية ، والمبدأ الإنساني وعواقبه على نظرتنا للعالم ولدورنا فيه ، والذكاء الفائق وما يمكن أن يفضي إليه من مشكلات غير مرتقبة أو مراحل حضارية جديدة .
في كتابه المعنون :”ما فوق الإنسانية : دليل موجز إلى المستقبل “، يصف بوستروم الذكاء الفائق القوي فيشير إلى العقل الذي لا يتجاوز سرعة الدماغ البشري فحسب ، بل يفوقه ذكاء من ناحية نوعه .
عند بوستروم أنه مهما سرعت من دماغ كلبك ، فإنك لن تحصل على ما يعادل العقل البشري . وبنحو مماثل فقد تكون هناك أنواع من الذكاء لا يمكن الوصول إليها حتى لأدمغة بشرية سريعة جدا نظرا لقدراتها الحالية .
لكن شيئا بسيطا مثل زيادة حجم شبكاتنا العصبية أو توصيلتها قد يمنحنا بعضا من هذه القدرات .وقد تتطلب التحسينات الأخرى إعادة تنظيم كامل للهندسة الإدراكية أو اضافة طبقات إدراكية جديدة فوق تلك القديمة.
هل من علاقة ما بين الذكاء الفائق والذكاء الإصطناعي بحسب بوستروم ؟
يرى الفيلسوف السويدي أن أنظمة الذكاء الإصطناعي الحالية او المستقبلية لا تشكل على المدى القريب أي تهديد للوجود البشري . ولكن إذا تم إنشاء نظام الذكاء الفائق ، فمن الأهمية القصوى أن يمنح قيما صديقة للبشر . ذلك أن الذكاء الخارق المصمم بخبث أو دون حذر ، مع أهداف ترقى إلى درجة اللامبالاة أو العداء لصالح الإنسان ، يمكن أن يتسبب في إنقراض البشرية .
هل تتقدم الإنسانية إلى الخلف أم تصعد إلى الهاوية ؟ الليالي حبلى بالمفاجآت.