المراقب: وحدة الدراسات
ما الذي يزعج كندا الملكية الفيدرالية الدستورية من جارتها، الولايات المتحدة الأميركية، الجمهورية العظمى، التي تعد قائدة العالم الليبرالي حتى الساعة؟
المؤكد جدا أن القرب الجغرافي، والإختلاط الديموغرافي بين الجارين، يجعلأحدهما فاعلا ومؤثرا في مسيرة الثاني، سياسية كانت أو إقتصادية، أمنية ومجتمعية ، ومن هنا يبدو واضحا أن الكنديين ينظظرون بعين ملؤها القلق لما يجري في الداخل الأميركي مؤخرا ، وباتوا يتحسبون من تبعاته بشكل كبير .
لم يعد في الأمر سر، ذلك أن الداخل الأميركي ترتفع درجة حرارة خلافاته السياسية ، ومن وراءها العرقية وربما العقدية والإيمانية ويقترب الأمر من درجة الغليان .
هل يمكن أن يحدث إنفجارا قريبا في أميركا مالئة الدنيا وشاغلة الناس ، لا سيما على هامش إنتخابات الرئاسة المقبلة في 5 نوفمبر تشرين الثاني المقبل؟
هذا هو السؤال المخيف للأميركيين أنفسهم ، وربما يكون الأكثر إثارة لجيرانهم كما الحال مع الكنديين ، والذين باتوا يناقشون الأمر بشكل علني ، كما التقرير الذي صدر مؤخرا عن أحد المراكز البحثية الكندية.
والشاهد أن مصطلح الحرب الأهلية، في حد ذاته، مصطلحا مخيفا، لا للداخل الأميركي فحسب، بل للعالم برمته، ذلك أم أميركا ومهما وجه العالم لها الإتهامات حول دورها السياسي الخارجي المختلف عليه، إلا أنها تبقى وفي كل الأحوال ،” رمانة الميزان “، في الإستقرار الدولي، ولا يمكن للمرء أن يتصور سيناريو كارثي، أسوأ كثيرا جدا مما جرت به المقادير في الإتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود، إذ سيكون الأمر وبالا على المجتمع البشري برمته.
هنا تبدو القراءة المحققة والمدققة لمشهد الحرب الأهلية الأميركية كما يراها البعض ، أمرا مطلوبا ومرغوبا، بهدف تبيان الحقائق ، وكشف الغموض، وبخاصة في المنطقة الفاصلة بين تمنيات كارهو العم سام، والديالكتيك الأميركي الفعلي في الداخل .
الحرب الأهلية تاريخ لم ينسى
هل نسى الأميركيون الحرب الأهلية الأولى، أم أن تاريخها لا يزال قائما في عقولهم وضمائرهم، ومكتوب في اللوح الأميركي المحفوظ، فيما الواقع الحالي يجعلهم يراجعون ما كتب قبل نحو 150 عام تقريبا ؟
في كتابه العمدة ” الحرب التي شكلت أمة : لماذا لا تزال الحرب الأهلية مهمة “، لمؤلفه المؤرخ الأميركي ، جيمس ماكفرسون، المتخصص في زمن الحرب الأهلية الأميركية، نجد أن فكرة التصالح مع الحرب الأهلية الأميركية ليست بالمهمة السهلة ، فحجم الدمار لايزال صادما . تشير التقديرات التاريخية الجديدة إلى أن عدد القتلى بلغ 750 ألف جندي ،أي 2.4% من السكان الأميركيين في عام 1860 ، وهو ما يوازي اليوم نحو 7.5 مليون أميركي .
هل الماضي يلقي بظلاله على الحاضر ؟
نعم ولاشك أن رؤية ماكفرسون هذه في كتابه، تكاد تطلب من الأميركيين أن يفتحوا عيونهم ، ويشحذوا اذهانهم ، في عقد المقاربات بين الماضي والحاضر .
هنا تبدو الجزئية الأكثر خوفا بل وهلعا ، الإمكانات التي كانت متوافر للمتحاربين في ذلك التوقيت، وأنواع ومستوى الأسلحة المتوافرة لدى الأميركيين في الوقت الحاضر.
بالطبع لا توجد مقارنة عادلة، ما يعني أن الخسائر قد تكون مضاعفة على صعيد البشر.
غير أن هناك جزئية أخرى تتعلق بالولايات المتحدة كقائد للعالم الليبرالي الحر وإمكانية بقاءها في ذلك الموضع، حال عرفت الجمهورية الأميركية مثل هذه الكارثة .
المؤكد أن العديد من إرث الحرب الأهلية الأميركية الغابرة ، بما في ذلك الحكومة الفيدرالية المتحولة، والتحول من اقتصاد العمل الزراعي العبودي نحوالراسمالية الصناعية ، ولانقاش الدائم حول سيادة الدولة ، والمنافسات الإقليمية التي لم يتم حلها ، والأسئلة الدائمة حول العرق والمواطنة، هذه جميعها لم يتم التوصل إلى إجابات حاسمة وحازمة بشأنها بعد .
من هنا يبدو النقاش المخيف حقا السائر والدائر، ماذا سيكون من شأن البلاد والعباد، حال الدخول في موجة عنف أهلية جديدة، وبأدوات فائقة القوة من الاسلحة المتوافرة في أيدي عموم الأميركيين، قبل الدخول في دائرة صراع الأجهزة أو القوات المسلحة .
هل هذا ما يخيف الكنديين حقا ، ومن هنا ظهر تقريرهم الأخير هذا ؟
لماذا يقلق الكنديون الآن؟
في تقرير ربيعي بعنوان” الإضطرابات في الأفق”، أقترح مركز دراسات كندي يسمى” آفاق السياسة الكندية “، أن حربا أهلية يمكن أن تحدث في الداخل الأميركي ، وأن مثل هذا سيناريو، يتوجب على “أوتاوا ” أن تفكر في الإستعداد له .
بدت هذه الفرضية وكأنها مدسوسة في عمق التقرير، والذي يبلغ نحو 37 صفحة ، وقد رسمت هذا الإحتمال في 15 كلمة جاءت على النحو التالي :” الإنقسامات الإيديولوجية في الولايات المتحدة والتآكل الديمقراطي والاضطرابات الداخلية تتصاعد ، مما يؤدي إلى إغراق البلاد في حرب أهلية “.
لم يكن هناك نقص في التنبؤات المروعة بشأن السياسات الأميركية منذ عقد تقريبا في الداخل الأميركي ، فقد إنغمست المنظمات غير الربحية ذات الميول اليسارية والمستشارين السياسيين والأكاديميين في تكهنات لا نهاية لها وتمارين لعب الأدوار ، ظاهريا لمساعدتهم في الدفاع عن الديمقراطية ومن الناحية العملية ، كان المثير من هذا بمثابة الإنغماس فس الذات.
تضمنت إحدى الحلقات الهستيرية في عام 2020 محاكاة لألعاب الحرب التي أنتهت بتشجيع بايدن وحلفائه الساحل الغربي على الإنفصال عن الإتحاد .
استطلع التقرير الكندي ، مئات الخبراء والمسؤولين الحكوميين حول الأحداث التخريبية التي قد يتعين على كندا الإستعداد لها ، بعد ذلك صنف المؤلفون هذه السيناريوهات بناء على إحتمالية حدوثها ، ومدى سرعة حصولها ، وحجم الفوضى التي قد تسببها .
غير أن العبارة المهمة في التقرير تتعلق بتصنيف هذه الحرب على أنها حدث غير محتمل ، ولكنه شديد التأثير ، وقد شملت السيناريوهات الأخرى في هذه الفئة العامة إنتشار الأسلحة البيولوجية محلية الصنع ، وظهور مسببات الأمراض المقاومة للمضادات الحيوية، مما يؤدي إلى الوفيات الجماعية ، ونقص الغذاء وإندلاع الحرب العلامية الثالثة .
هل تاريخ كندا الداخلي ، والحركات الإنفصالية التي جرت هناك، تجعل مخاوف حرب أهلية أميركية، أمرا قابلا للحدوث بالفعل؟
يرى التقرير أن هناك سيناريو واحد جدير بالثقة لحرب أهلية
أميركية، وهو سيناريو ليس من الماضي البعيد أو من بعيد، بل من مثال قريب وقريب جدا وهو مثال كندا عينها ..كيف ذلك؟
لم تكن معركة كيبك الإنفصالية في الستينات حربا أهلية شاملة ، ولكنها كانت هجوما عنيفا ومستمرا على الولاية ، نفذه مسلحونأعتقدوا أن النظام الفيدرالي قد تغير بطريقة غير مقبولة ، واستمرت القلاقل والإضطرابات حتى عام 1970 حين تم إختطف الإنفصاليون في كيبك وقتلوا ” بيير لابورت”، نائب رئيس المقاطعة .
كانت هذه فترة حرب أهلية وحشية ومؤلمة ، وفي فترة ما بعد محاولة الإعتداء على الكونجرس في يناير 2021، لم يعد من قبيل التكهنات الجامحة أن نتصور سلسلة مماثلة من الأحداث في الولايات المتحدة ، سيما أنها دولة مدججة بالسلاح ولها نظام فيدرالي متنازع عليه وهويات إقليمية فخورة ، وبعض ولايات مثل تكساس وكاليفورنيا ، أصبحت كيانات شبه وطنية بالفعل .
في هذا السياق يبدو من الطبيعي أن الرئيس القادم، وساء جرى إختيار دونالد ترامب مرة ثانية، أو جو بايدن ، فإنه ايهما سيكون مكروها من قبل قسم كبير للغاية من البلاد، ومن المرجح أنه سينظر إليه على أنه رئيس غير شرعي من قبل أقلية كبيرة على الأقل .
لا يتطلب الأمر خيالات متنوعا ليدرك القارئ ما الذي ينتظر الولايات المتحدة في نوفمبر تشرين الثاني المقبل .
ما الذي يجري في كندا في هذه الآونة ، رغم القول بأن السيناريو بعيد عن التحقق بالفعل ؟
كندا وتراجع أميركا الليبرالية
هل كندا حقا في حالة خوف من تراجع الليبرالية الأميركية، ومن فقدان الولايات المتحد لموضعها فوق جبل التطويبات الخاصة بالعالم الحر، إن جاز التعبير؟
عبر مجلة نيوزويك الأميركية في العدد الصادر بتاريخ 18 أغسطس 2023، نشرت المجلة مقالا يتضمن تفاصيل متعلقة بآراء وزيرة الخارجية الكندية، ميلاني جولي، والتي أعترفت فيها علن بحقيقة أن الحكومة الكندية خائفة من تبعات إنتخابات الرئاسة 2024، لا سيما في ظل إحتمالات عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض مرة أخرى ، وهو من قرر تفجير إتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية ( نافتا)، واستبدالها بالإتفاقية الحالية بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا ، فقد فعل ذلك من خلال لاتفاوض بقوة ، وربما بشكل أكثر دقة أو ترهيب أو تجريف مع كندا والمكسيك ، وعلى حساب العلاقات الثنائية الودية الموجودة مسبقا .
هل الخوف من شخص ترامب ؟
بالقطع مخاوف الكنديين، تتجاوز شخص ترامب، إلى التيار السياسي اليميني الناهض في الداخل الأميركي، ذاك الذي يكتسب أرضية يوما تلو الأخر ، وسواء فاز ترامب أم لا .
تشعر كندا بالقلق من أن جارتها الجنوبية المهيمنة قد تخرج عن مسارها وتتجه نحو اليمين المتطرف غير الديمقراطي ، ولعل ما حدث في إنتخابات 2020، كان السبب الرئيس في هذا المخاوف ، فقد أعترف رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، بأن كندا في ذلك اليوم الصعب، السادس من يناير 2021، كانت تستعد لإحتمال حدوث” بعض الإضطرابات “، وكل الإحتمالات، إذا حاول ترامب البقاء في السلطة بشكل خارج القانون .
كان مصدر القلق الخاص لكندا هو حقيقة أن عددا متزايدا من الأميركيين المتحمسين كانوا على إستعداد تام لتأييد أعمال العنف السياسي ، في حالة فوز الحزب السياسي المعارض في الإنتخابات.
وفي حين ينبغي أن الأمر ينبغي أن يكون مثيرا للقلق بشكل غير عادي ، فإنه ليس من المستغرب بشكل خاص أن الحكومة الكندرية تتخذ خطوات للإستعداد للعواقب المحتملة لتراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة ، إذا وجدت نفسها مؤقتا دون المظلة الواقية من سياستها ، سياسة الشريك الأميركي المهيمن .
تم التعبير عن هذا الشعور بشكل جيد في مقال نشرته صحيفة ” هاميلتون سبكتاتور “، في 6 يناير 2022، أي بعد عام واحد بالضبط من الهجوم المروع على مبنى الكابيتول في الداخل الأميركي .
يتساءل ثقات الأميركيين عما جرى في ذلك النهار المثير، والذي يعتبره الكثير منهم بداية إنحدار الديمقراطية الأميركية ، فعلى الرغم من أنه تم سحق محاولة التمرد تلط ، لكن السيناريو الأكثر رعبا تجلى في أفق واشنطن في ذلك اليوم ، وخيل للعامة أن الآلاف سوف يموتون ، من جراء الصدام المسلح المتوقع ، ويضطر المشرعون الأميركيون المهانون إلى الفرار إلى بر الأمان .
في ذلك التوقيت ، ظل العالم يتساءل عن مدى اقتراب الولايات المتحدة من الفوضى السياسية والحرب الأهلية ، وهل يمكن أن تتم محاولة إنقلاب ثانية في يوم أخر طال الزمن أو قصر.
على أن الخوف الكندي الأعظم كان ولا يزال يتمثل في جزئية أكثر رعبا ..ماذا عن ذلك؟
القوات المسلحة الأميركية والتمرد
عرفت القوات المسلحة الأميركية بأنها قوات نظامية، منضبطة إلى أبعد حد ومد، لا يمكن بحال من الأحوال تغيير طبيعتها، غير أن المكالمة الهاتفية التي جرت بين رئيس أركان الجيش الأميركي في نهار السادس من يناير 2021، الجنرال مارك ميلي، ونظيره الصيني ليزوتشينغ ، ومن وراء ظهر ترامب، باتت تؤرق مضاجع الكنديين والأميركيين، بل وبقية أرجاء العالم، خوفا من حدوث مضاعفات لهذا المشهد في المستقبل.
برر ميلي لاحقا إتصاله مع الطرف الصيني ، بأن المخاوف العسكرية الأميركية قد وصلت حد قيام الصينيين بضربة نووية إستباقية للولايات المتحدة ، وخوفا من أن تقوم الميليشات التي رفعت أعلام الكونفيدرالية في ساحة الكونغرس، بالإستيلاء على المواقع النووية في البلاد، وتوجيه الرؤوس النووية شرقا وغربا .
التبرير له وجاهته الدفاعية إن جاز القول، لكن الكارثة وليس الحادثة تمثلت في أن الأمر على هذا النحو، يجعل الجنرال ميلي متخطيا للقائد العام للقوات المسلحة الأميركية ، أي الرئيس ترامب في ذلك الوقت .
هنا يبدو أن الكنديين يضعون في الإعتبار إحتمال حدوث إنهيار داخل القوات المسلحة الأميركية ، إذا مضى المرشح الجمهوري دونالد ترامب في مخاطبة الأميركيين بعد الإنتخابات ، حال خسارته، بأنه تعرض لخسف وعسف شديدين من الدولة الأميركية العميقة، الأمر الذي أدى إلى خسارته .
عبر صحيفة الواشنطن بوست وقبل نحو عامين، حذر عدد من الجنرالات الأميركيين المتقاعدين من حدوث مثل هذا السيناريو ، سيما أنه حال حدوثه ستكون الولايات المتحدة قد أنزلقت بالفعل إلى حرب أهلية ، وفي مثل هذا سيناريو فوضوي ، ليس هناك من يستطيع أن يجزم بمن سيصل إلى القمة ، والسؤال ماذا لو صعد الزعيم الخطأ إلى السلطة ؟
من المؤكد حكما أن الأمر سينتهي بإراقة الدماء .
ولعل الأمر الأكثر قلقا للكنديين،يتمثل في تحقق المخاوف من حدوث إنهيار داخل القوات المسلحة الأميركية ، ففي حال جرى الأمر على هذا النحو ، هل ستتمكن الحكومة الأميركية الشرعية من تأمين البنية التحتية العسكرية الأساسية ؟ قد تقع مستودعات الأسلحة الفردية في أيدي العناصر المتمردة في الجيش ، والتي تنطلق من مفاهيم إيديولوجية لأي رقيب عشوائي موجود في ذلك الوقت .
هنا قد تكون الخسائر هامشية، لكن ماذا حال وقوع مروحيات وطائرات أف – 16 ، كيف يمكن أن يضحى حال الداخل الأميركي في ذلك الوقت ، وما مدى الخسائر التي ستحيق بالأمة الأميركية ، والتي ستبدو خسائر الحرب الأهلية الأولى بالنسبة لها نزهة لا حرب .
هل من إحتمالات مريعة وشنيعة أكثر من تسرب أسلحة يدوية إلى أيدي المتمردين؟
نعم ، هناك الأسوا العالمي الذي يمكن أن تجري به المقادير، ويتمثل في تلبس الإيديولوجيات اليمينية الضارة، لأولئك القائمين على حراسة وصيانة، تشغيل وتجهيز الصوامع النووية، والتي يعني الإقتراب منها، أو التعامل معها ، دخول العالم برمته في حرب نووية لا محالة .
الديمقراطية الأميركية ومخاوف الحلفاء
لعله من العبارات المهمة للغاية في سيرة ومسيرة الأنظمة الديمقراطية، هو أنها لا تحارب بعضها البعض، بل تتعاون سعيا في طريق أكثر رحابة لشعوبها، وربما كان درس النازية والفاشية في النصف الأول من القرن العشرين ، كافيا لكي تدرك الشعوب فداحة خيارات التطرف.
منذ العام 1945، والولايات المتحدة الأميركية تتسنم العالم ديمقراطيا ، حقوقيا، أدبيا وأخلاقيا، حتى باتت تعرف بانها قائدة العالم الليبرالي الغربي .
غير أن واقع الحال يكاد يقودنا إلى منطقة ملتبسة تتهدد فيها الديمقراطية الأميركية في الداخل، الأمر الذي يزعزع الأساسات الصلبة التي قامت عليها الولايات المتحدة الأميركية .
على عتبات الإنتخابات الرئاسية الأميركية المخيفة وغير المسبوقة، يسترجع الكنديون مقالا مثيرا كتبه الباحث في عالم الصراعات العنيفة ، البروفيسور ” توماس هومر ” الأستاذ بجامعة ريال رودز في كندا ، تم نشره في صحيفة الغارديان البريطانية في 3 يناير 2022، وفيه تحذيرات جدية من أنه ” بحلول عام 2025، يمكن أن تنهار الديمقراطية الأميركية ، مما قد يؤدي إلى عدم إستقرار سياسي داخلي شديد ، بما في ذلك العنف المدني على نطاق واسع، وبحلول عام 2030 ، إن لم يكن قبل ذلك، يمكن أن تحكم البلاد ديكتاتورية يمينية .
ومن بين مخاوف البروفيسور ديكسون العديدة، تحذره من أن قيادة الدولة الجمهورية قد ترفض قبول فوز الديمقراطيين في عام 2024، أي بعد أربعة أشهر تقريبا ، ظاهريا ، وهنا سيكون الصدام قادم لا محالة .
ولعله من نافلة القول وما يخيف الكنديين، أنه حال إنتصار الجمهوريين في الإنتخابات الرئاسية القادمة، ربما سيكون التوجه المسيطر عليهم متمثلا في أمرين لا ثالث لهما :” التبرئة والإنتقام”..ماذا يعني ذلك ؟
يعني وبعبارة واضحة تمام الوضوح، أن ترامب وإدارته الجديدة، سيلاقون دعما جماهيريا من أكثر من 75 مليون أميركي يؤيدونه، لإعادة عجلة الزمن إلى الوراء، ومحاولة تصويب ما يعتبرونه خطأ كارثيا جرى في حقهم، أي نتيجة إنتخابات عام 2020، وإظهار التلاعب الذي جرى فيها، بحسب دعواهم .
الأمر الأخر هو الإنتقام من الذين تسببوا في قطع الطريق على ولاية ثانية للرئيس ترامب، وهذه الخطوة تحديدا ستكون كأعواد الثقاب التي تشعل الداخل بصورة غير مسبوقة ، وبما يجعل إرهاصات الصراع الداخلي، أقرب ما تكون إلى الحقائق التي يتوجب مواجهتها .
هذا ما يمكن أن يحول الديمقراطية الأميركية، إلى نظام شمولي ، وكما يفعل أي رئيس في منطقة منبتة الصلة بعالم الحريات والديمقراطيات ، ما يعني أن واشنطن ربما تكون على موعد، قولا وفعلا، من ” الكرة النارية المدمرة للديمقراطية “.
يتفق مع رأي البروفيسور هومر ، رأي أخر يعود للبروفيسور ” روبرت دانيش”، من جامعة واترلو ، والذي نشره في مجلة ” The Conservation” بتاريخ 13 فبراير 2022، وجاء فيه :” أن الولايات المتحدة عل وشك أن تصبح دولة ديمقراطية فاشلة ، حيث يسلط الضوء على استطلاع للرأي أجرته مؤسة ” زغبي”، أظهر أن 46% من الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة تتجه نحو حرب أهلية أخرى ، وحذر دانيش من أن ” الخطاب العنيف يميل إلى تأجيج أعمال العنف “، وذكر أنه ” كلما أصبح الخطاب المتطرف العنيف هو القاعدة ، زاد إحتمال رؤية الخطر والعنف “.
دانيش أعرب كذلك عن مخاوفه من أن ” مزيج وسائل الإعلام مثل فوكس نيوز التي لها تأثير بعيد المدى ، كما أن الخطاب الإستبدادي المناهض للديمقراطية هو بالضبط وصفة للإنتشار المعدي لأنواع السلوكيات التي يمكن أن تهدد الديمقراطية في كندا .
البروفيسور “دانيش”، حث المجتمع الدولي ، وكندا بشكل أكثر تحديدا على متابعة ” تحليلات منهجية وموضوعية لما سيحدث إذا أو عندما تنتهي التجربة الأميركية مع الديمقراطية “.
يسأل “دانيش ” كندا والعالم عما ستفعله لمواجهة تصرفات الولايات المتحدة إذا صحا الأميركيون ذات يوم على إدارة تتظاهر بأنها ديمقراطية ، بينما تتبنى الفاشية في واقع أمرها .
على أن الموضوعية تقتضي معنا التساؤل:” هل كل الآراء تجمع بالفعل على أن أميركا تقترب من الحرب الأهلية، أم أن الأمر مجرد فرضية هلامية لا أساس لها من الصحة ؟
لا للرهان على حرب أهلية أميركية
تقدم لنا الكاتبة الأميركية ” كيتي هولستون “، من صحيفة النيويورك تايمز رؤية مغايرة لما جاء في التقرير الكندي أخاف الكثيرين، وعندها أن هناك العديد من أسباب التفاؤل التي تجعل كل ما تقدم لغو كلام ورطانة لغوية غير حقيقية .
بحسب هولستون، يشعر الكثير من الناس بالإنكسار في الولايات المتحدة هذه الأيام ، ولكن بغض النظر عن المشاعر ، فإن الكثير يعمل بهدوء أيضا .
لا ينسجم الأميركيون مع وسائل التواصل الإجتماعي ، ولكن في العالم الحقيقي يبدو أنهم ينسجمون بشكل أفضل ، أو على الأقل ، أقل سؤءا من أي وقت مضى .
إنها تنصح الباحثين عن الحقيقة بقولها :”قم بإيقاف تشغيل التلفزيون والخروج وسيكون من الصعب جدا رؤية حرب أهلية تلوح في الأفق.
تقدم هولستون بيانات متفائلة على العكس من الكثير من الإستطلاعات التي يتم الترويج لها مؤخرا ، فعلى سبيل المثال تتوقف عند معدل الجريمة، وهو ما يمكن أن يعتبر مدخلا لقياس فكرة نشوب صراع مجتمعي داخلي.
لا تزال الولايات المتحدة مكانا ترتفع فيه معدلات الجريمة ، لكنها ومع ذلك ظلت في إنخفاض منذ ثلاثة عقود .
كان عدد جرائم القتل في عام 2023 حوال نصف عدد جرائم القتل التي حدثت خلال أسوا سنوات الثمانينات وأوائل التسعينات .
كان هناك ارتفاع خلال الوباء ، لكنه تراجع بصورة مؤكدة ، وهذا ما صرح به محلل الجريمة ” جيف آشر”، مؤخرا لشبكة NBC NEWS ، من أنه عندما يتم الإنتهاء من أرقام عام 2023،” سنشهد على الأرجح أكبر أنخفاض تم تسجيله في جرائم القتل لمدة عام واحد على الإطلاق “.
لا تقلل ” هولستون” بحال من الأحوال من شأن المخاطر الكامنة في السياسة الأميركية ، فالناخبون منقسمون بشدة، ويواجه الحزبان متمردين من أقصى اليمين، واقصى اليسار .
من السهل طرح نصوص حول حرب أهلية مستقبلية ، حيت يتسم الخيال بنكهة المعقولية ، لأن جزءا كبيرا من تاريخ الولايات المتحدة تميز وصنع بالعنف السياسي .
لكن تجربة قريبة منذ أقل من عامين، وخلال إنتخابات التجديد النصفي للكونجرس، صاح اليمين الأميركي بأن ” موجة حمراء ” سوف تغطي البلاد من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها ، بمعنى فوزا كاسحا للجمهوريين .
غير أن الرهان على ذلك لم يفلح ولم ينفع ، فقد أنتبه الناخب الأميركي لما أعتبره ” فخا محتملا”، يدخل البلاد في أزمة ومواجهة ، وجاءت النتائج بالفعل متقاربة بدون سيطرة كلية لواحد تجاه الأخر .
هنا يبدو التساؤل المستقبلي، هل ستتجاوز أميركا مخاوف الكنديين في نوفمبر المقبل ؟
دعونا ننتظر ونرى .