سرديّة المودّة والحوار.. الأمين العامّ لكايسيد في زيارة لبابا الأقباط في مصر

صورة خاصة للمراقب

إميل أمين 

مساءَ الخميس الأوّل من أغسطس، وفيما شمس الأصيل تميل إلى الغروب، كانت كاتددرائية الأقباط الأرثوذكس في حيّ العباسيّة العتيق، وسطَ قاهرة المعزّ، تستعدّ للقاء هو الأوّل من نوعه، بين الدكتور زهير الحارثي، الأمين العامّ لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالميّ، للحوار بين أتباع الأديان والثقافات “كايسيد”، وقداسة البابا تاوضروس الثاني، بابا الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة المصريّة.
بابا الأقباط ليس بغريب عن كايسيد، فقد سبق وزار مقرّها السابق في فيينا بالنمسا، كما يشارك عدد من أكليروس كنيسته العريقة في غالبية أنشطة كايسيد، لا سيما المنصّة الخاصّة برجال الدين في المنطقة والعالم.
الزيارة جاءت ضمن الجولة الناجحة للأمين العامّ في مصر، والتي بدأت بالمشاركة في مؤتمر وزارة الأوقاف المصرية، والذي جاء تحت عنوان “الفتوى والبناء الأخلاقيّ في عالم متسارع”.
بابتسامته المعهودة، وسرديّة محبّته الواسعة، استقبل البابا تاوضروس الدكتور الحارثي.
عُرف البابا تاوضروس على الدوام ببساطته وتواضعه، وميله إلى التصالح والتسامح، والاهتمام بمَدّ جسور المودّات مع كافّة الأطياف والأطراف حول ستّ قارات الأرض، دون أيّ محاصصة أو تمايز عرقيّ أو عقدي، وعنده دومًا أن البشر متقدمون في الأهمية على الحجر، ولهم الأولوية في الحل والترحال.
حلَّ الدكتور الحارثي ضيفًا حاملاً رسالة كايسيد، التي تمضي في عامها الثالث عشر، ممثّلة للصوت الرسائليّ للتسامح والتصالح في عالمنا المعاصر ذاك الذي بات موسومًا بالآلام، ومطبعًا بالصدام والخصام، ولهذا أدرك كايسيد ومنذ نشأته الأهمية الكبرى لاختيار وتوظيف إرث التآخي والتعايش السلمي بين أتباع الأديان والثقافات حول العالم كافة، وفي الشرق الأوسط بنوع خاصّ.
الذين قُدِّرَ لهم متابعة هذا اللقاء، عرفوا كيف تلتقي القلوب، وهي أرواح مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وهو ما جرتْ به المقادير بين الأمين العام لكايسيد الدكتور الحارثي والبابا تاوضروس، وبخاصة بعدما أثني الأول على الدور المتقدم الذي تقوم به الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في دعم مسيرة كايسيد عبر جناحَيْن: الأكليروس ، أي رجال الدين من الكهنة، والذين يشاركون في منصّة كايسيد، تلك التي استشرفت مبكرًا الدور القيادي والريادي لرجال الدين، وكيف لهم أن يصنعوا صيفًا أو يبدلوه شتاء، على صعيد تعزيز التماسك الاجتماعيّ والعيش المشترك، ونشر ثقافة المواطنة والتعدديّة.
فيما الجناح الثاني يتمثل في الشباب المصري المسيحي، المشارك بقناعة وفعالية في أعمال وأدوار وفعاليات كايسيد بشكل دائم ومستمرّ.
في ثنايا اللقاء وحناياه، أعرب الحارثي عن أمله في أن يمتد التعاون المستقبلي مع الكنيسة القبطية، والتي وصفها بأنها كنيسة عريقة عرفت طويلاً فترات المَدّ الروحي والعلمي، وخَرَّجت للعالم فلاسفة ولاهوتيّين، مفكرين وعلماء، وعرفت بمدرستها، مدرسة الإسكندريّة الرائدة حول العالم، لا سيّما في مجال القضايا التي تتّسم بالمسحة الاجتماعية، والتفكير في أعمال مشتركة، تضع حجر الأساس لنقلة جديدة للتعاون الخلاق بين الجانبَيْن، لا سِيَّما على صعيد مواجهة خطاب الكراهية، ذاك الذي شاع وذاع في حاضرات أيّامنا، ويكاد يجعل نهار العالم مشوب بالقلق وليله بالأرق.
في بساطته وعلمه الغزير، ومحبته الواسعة، والتي تشعرك وكأنك في حضرة صوفية، يثني كبير الأقباط البابا تاوضروس على ما قاله الأمين العام الدكتور الحارثي، ويعزّز ما تصبو إليه كايسيد عبر مشوارها الطويل، فيضيف أن زرع المحبة ربما بات متقدّمًا على مكافحة الكراهية، فالحب يطرد البغض، وعنده أن هناك خمس محبّات ينبغي على الإنسان أن يعيشها.
محبة الله، حيث الرحمن يجب أن يملأ قلب الإنسان أول الأمر وآخره، ومحبة أمّنا الأرض، والتي تئنّ اليوم تحت وقع التغيّرات المناخية الكارثية، وكذا محبة الإنسان الآخر، فهو خلقة الله وخليفته في الأرض، بالإضافة إلى محبّة الأوطان التي هي من الإيمان، وكل إنسان غال وعزيز عليه وطنه، وأخيرًا محبة السماء، بمعنى أن يعيش الإنسان على الأرض، لكن يتوجب أن يبقى قلبه موصولاً بالسماء، لأنه مغادر حكمًا.
حديث الروح هذا، يلقى من الأمين العام الدكتور الحارثي، استحسانًا كبيرًا يتبدى على مُحيّاه، ويعلق بالقول: هذا ما نود أن نرى الأجيال القادمة تنشأ في هَدْيه، وتسير على دربه، لتَخرج لنا أجيالٌ تفيض بالحب والتسامي، وتبلور صورة راقية لإنسانية قادرة على التفكير بعزم، والعمل بحزم، تقفز فوق جدران الكراهية، وتتجاوز التفكير الحدّيّ، بين الذين معنا والذين ضدّنا، فالحياة درجات متفاوتة من الألوان، وقد نختلف اختلافا صحيًّا في بعض المواقع والمواضع الفكرية، لكن ذلك لا يعني ضرورة وحتمية إقصاء الآخر مرةً وإلى الأبد.
روح المحبات التي سادت ساعةً أو أزيد من الودّ الصافي، حكمًا فتحت الطريق للتفكير المُعمَّق، فيما طالب به الأمين العام الدكتور الحارثي، أي التفكير في مشروعات مشتركة وتعاون حداثيّ، يتجاوز بآلياته وميكانيزمياته، المعروف والمألوف والموصوف، في عمل جماعات الحوار، وهو ما يتطلب أنواعًا من فكر الابتكار، الكفيل بتغيير الأوضاع وتبديل الطباع.
كلام الحارثي، دون مزايدة، رسم ابتسامة صادقة على مُحَيَّا البابا تاوضروس، والذي ضمّ صوته مؤكّدًا أهمية الحديث عن وسائل جديدة عصرانية، تجذب الشباب إلى “كلمة سواء” مشتركة، وعمل نافع لعيال الله، سيّما أنه صاحب خبرة حقيقيّة في التعامل مع الأطفال والصبيان والشباب، فقد جرت العادة أن يجتمع بهم، ليقصّ عليهم أحسن القصص، من خبرات الشعوب والأمم، شرقًا وغربًا ليزرع في جنباتهم روح التعددية التي فطر المولى سبحانه العالم عليها، ومن ثم دعا جميع الأمم والشعوب والقبائل للتعارف وتتصادق، لا لتتحارب وتتقاتل.
يختتم كبير الكهنة القبطي البابا تاوضروس كلماته الثمينة، بالثناء على أدوار كايسيد وأنشطته، ويعبر عن تشجيعه للمزيد من أفعال الصلاح والفلاح هذه، والحاجة الماسّة لتنسيق الجهود وتطوير إستراتيجيات العمل وبرامج تعزيز ثقافة الحوار، والتأسيس لخطاب ديني يحضّ على التعايش والانفتاح ويغرس قيم التعدديّة والتنوّع.
يوجّه الأمين العام د. الحارثي الدعوةَ للبابا تاوضروس لزيارة مقرّ كايسيد الجديد في البرتغال، ذلك البلد الذي تشهد طبيعته الجغرافية والديموغرافية، على تجانس وتعايش مشترَك، شرقي غربي، إسلامي مسيحي، منذ مئات السنين، ويقبل البابا شاكرًا مرحِّبًا.
زيارة كاتدرائية الأنبا رويس، مقر البابا القبطي الأرثوذكسي من قبل الأمين العام لكايسيد، مدماك جديد، يعزز من عالم يسعى إلى التضامن، يمضي في دروب الاتفاق عوضًا عن الافتراق، عالم المطلوب فيه أن يفهم الإنسان قصد الله في حياته، في عمارة الأرض، وخدمة بني البشر، قهر الحواجز، مقاومة الجدران، وبناء الجسور، وعودة كرامة الإنسان المفقودة التي همشتها إيديولوجيات زمنية، في حين تعود بها الإيمانيات الصادقة غير الأبوكريفية إلى العمق، لتلقي شباكها، وتعود بصيد وفير وثمين.

عن سيد العادلى

شاهد أيضاً

مسؤول بالحرس الثوري يكشف مصير إسماعيل قاآني

Written by سيد العادلى وكالات :-  قال مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني إبراهيم جباري، الأربعاء، إن …