المراقب: قسم الدراسات
ما السر وراء هذه الحملة المنطلقة في وسائل الإعلام الأميركية المختلفة، وجميعها تبغي هدفا واحدا :” محاولة تبييض صفحة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي فقد زوجته روزالين مؤخرا، ويعاني من حالة صحية متدهورة، وحيدا في بيت من بيوت المسنين، وإن وجد الإحترام والتقدير الكافيين؟
في نظر الكثيرين يكاد كارتر يضحى قديسا لا رئيسا ، مع الفارق الشاسع بين الإثنين، سيما أن القداسة مجال رحب مطلق، لا يحد ، من الروحانيات ، فيما السياسة عالم من النسبي المؤطر بحدود غالبا ما تكون براغماتية، تعرف طريقها إلى المكر والدسائس صباح مساء كل يوم .
من الصعب تفهم أسباب هذه الفورة الإعلامية الساعية في طريق رد مظلومية الرئيس الأسبق كارتر، غير أنه وفي كل الأحوال، يبقى من الممكن تفهم المشهد في إطار حالة الإستقطاب السياسي التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام، وعلى عتبات واحدة من أغرب الإنتخابات الرئاسية، حيث لا أحد قادر على التنبؤ مساراتها أو مساقاتها .
ما هو إرث كارتر الذي يتحدثون عنه ؟ وهل الأمر يتجاوز مجرد الإخفاق السياسي إلى أعمال إنسانية وحقوقية عظيمة، أرسى قواعدها بعد أن ترك البيت الأبيض ؟
المؤكد أن قصة كارتر قصة رجل أستطاع أن يبلغ العظمة في مرحلة لاحقة، وعلى الرغم من أنه أنتقد في البداية إلأا أنه أحترم في النهاية، وربما كان في بدايات ايامهة مهزلة الجميع، غير أنه فيما بعد صار محط أحترام مل الأميركيين ..من اين لنا البداية ؟
لسنا في معرض السيرة الذاتية لكارتر، فقط نذكر القارئ بأنه الديمقراطي القادم من ولاية جورجيا الجنوبية، الذي تم إنتخابه رئيسا في عام 1976 ، والمثير أنه حتى قيامه بحملته الإنتخابية للمنصب، لم يكن سوى عدد قليل من الأميركيين يعرفون من هو .
حين دخل إلى البيت الأبيض، ربما كان خطأه الأكبر في عيون دهاقنة السياسة الأميركية، أنه رفض الإنضمام إلى جماعة ” الولد الطيب”، أي كبار أثرياء أميركا، أولئك الذين يوجهون دفة قيادة البلاد داخليا وخارجيا، وربما خيل له أن الرئيس الأميركي هو القوة المسيطرة الحقيقية على مسارات الأحداث ، ومساقات الخطوب في هذا البلد الإمبراطوري .
في بدايات أيام ولايته اليتيمة قال كارتر إن إفتقاره إلى الخبرة في العمل مع الحكومة الفيدرالية جعله المرشح الأفضل ، وبعد سنوات من المشاكل في البيت الأبيض ، بدأ العديد من الناخبين يتفقون معه .
ومع ذلك اصبحت قلة خبرة كارتر مشكلته أيضا، وكانت بعض القضايا التي واجهها معقدة ، وفي بعض الأحيان بدت ساحقة .
أربع سنوات قضاها كارتر في البيت الأبيض، من 1976 إلى 1980، كان القدر له فيها بالمرصاد، ما بين رئاسة أميركية تعرضت للكثير من العطب في زمن ريتشارد نيكسون، ثم جيرالد فورد نائبه، مرورا بحالة من التضخم الإقتصادي المؤلم الذي ضرب البلاد والعباد، فيما جاءت الضربة الكبرى متمثلة في قيام الثورة الإيرانية، وإحتجاز أعضاء السفارة الأميركية هناك كرهائن ، ثم فشل العملية العسكرية، التي حاولت تحريرهم، هذه وغيرها من التفاصيل ، رسمت صورة باهتة إلى حد ضعيفة جدا عن الرئيس كارتر.
والشاهد أنه عبر أربعة عقود ونيف، بات كارتر في عيون غالبية الأميركيين، ذلك الرئيس الضعيف، الذي كاد يجر أميركا من وراءه إلى الهاوية، قبل أن ينتصر عليه رونالد ريغان، القادم من كاليفورنيا، ليتحدى ويتصدى للكثير من الأزمات الداخلية، ويعزز إنتصارات أميركا في مواجهة ما كان يطلق عليه ” إمبراطورية الشر “، أي الإتحاد السوفيتي.
هل كانت قصة ضعف كارتر وفشله تلفيقا يمينيا، لأكثر من سبب، وربما في مقدم تلك الأسباب، رؤيته للقضية الفلسطينية، على الرغم من الدور الذي لعبه كصانع سلام في الشرق الأوسط، دور لم يتكرر من بعده ، ولم يدانيه أحد من الرؤساء اللاحقين، ديمقراطيين أو جمهوريين في نجاحاته ؟
الجواب يمضي في إتجاهين، الأول هو الهجومات التي تعرض ولا يزال كارتر لها، بإعتباره الرئيس السابق الذي تجنى على دولة إسرائيل، وكاد أن يتهمها بالعنصرية، في تعاطيها مع الفلسطينيين، وهو ما أوضحه بعنية وتفصيل كبيرين، في مؤله المعنون :” فلسطين …ٍلام لا تفرقة عنصرية “،وكانت رؤيته الرئيسة فيه أن هناك طريقة للوصول إلى السلام العادل في هذا الجزء المشتعل من العالم،( أي الشرق الأوسط)، طريقة تتوافق مع القانون الدولي ، والسياسة الثابتة للحكومة الأميركية ، وتلقى قبولا من معظم الإسرائيليين والفلسطينيين، وتتواءم مع الإتفاقيات التي تم التوصل إليها فيما سبق وحاولوا التنصل منها فيما بعد ، والكلمات بحسب نصه في الفصل الأول من الكتاب .
هنا يتساءل البعض هل تعرض كارتر لموجة من الظلم التاريخي من قبل تيارات بعينها لا تتسق أغراضها مع توجهات رجل جورجيا الطيب؟
الجواب يحتاج إلى مناقشات معمقة حول رؤية كارتر كرجل سلام، فيما الجزء الأخر الذي يمكن أن يحاجج به البعض في ضعف كارتر ، فموصول بأزماته الداخلية، والتي نجمت عن قلة خبرته في كيفية إدارة الأمور في واشنطن .
والثابت أنه ما من شك أن كارتر أخفق في بلورة رؤية للإصلاح الضريبي في الداخل الأميركي ، كما أن قلة خبرته عينها، هي من ترك بصمة كبيرة على عدم القيام بإصلاح نظام الرعاية الإجتماعية ، وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على إصلاح نظام الرعاية الصحية .
هل كانت المنافسة الشرسة داخل الحزب الديمقراطي عينه ، في طريق الوصول إلى الولاية الرئاسية الثانية، من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى ضعف عام وتشتت في المقدرة تجاه إدارة البلاد ؟
غالب الظن أن هذا ما جرت به المقادير، بالفعل ، فقد كانت علاقتة المشحونة مع السيناتور الديمقراطي العتيد، تيد كيندي، سليل العائلة السياسية الشهيرة، والذي طمح في ذلك الوقت إلى الوصول للبيت الأبيض، سببا في إلحاق الأذى الشديد به ، عندما تحداه للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي له عام 1980 .
هنا يقول بعض الرواة لما كان يدور في البيت الأبيض، في ولاية كارتر، أنه كان متذمرا ومتقطعا ، ما تسبب في نفور قسم كبير من الحزب الديمقراطي ،ولعله من مصادفات القدر أن يكون الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن ، هو أول سيناتور يؤيد كارتر عام 1976، ولهذا أوصاه كارتر بأن يقرأ تأبينه في يوم موته .
على أن الإتهام بالضعف الحقيقي لكارتر ، موصول كذلك بقضية مصيرية حياتية في الداخل الأميركي ، ونعني بها قضية توفير الطاقة، ففي أميركا ” المموطرة “، الواسعة الشاسعة، كل شيئ يحتاج إلى محركات للحركة والإنتقال ، وفي ظل أرتفاع أسعار الغاز والنفط، بدت أميركا مأزومة في عهد كارتر .
على أن الطامة الكبرى التي لحقت بولاية كارتر،تمثلت فيما جرى في إيران، الأمر الذي أعتبر خسارة كبيرة للنفوذ الأميركي في منطقة الخليج العربي، حيث إمدادات النفط ، سائل الحياة والحضارة للأميركيين .
وما زاد الطينة بلة كما يقال ، أن كارتر بدوره، أخفق في أن يقوم بالدور التقليدي للرئيس الأميركي، أي رئيس ، دور ” اليانكي الشهير”، الذي يعرف كيف ينتصر في حربه الخاصة، ويظهر فحولة بعينها في ميادين القتال ، وهو ما أخفق فيه كارتر في ساحة المواجهة مع الملالي القادمين من فرنسا على أسنة الرماح .
غير أن هذه الرؤية التقليدية، تجابه اليوم بالكثير من النقد الذي يقارب النقض دفعة واحدة، وليس أدل على ذلك من تلك القراءة المعمقة التي حملتها لنا مجلة الفورين بوليسي الأميركية في عددها الأخير، بقلم ” ستيورات إي إيزنستان ، تحت عنوان ” إرث تمت إساءة فهمه “.