إميل أمين
كيف يمكن التنبؤ بالمستقبل ؟ غالب الظن أن أفضل من قدم جوابا شافيا وافيا، على علامة الإستفهام المتقدمة، هو الفيزيائي والكيميائي البلجيكي من أصل روسي، إيليا بريغوجين ( 1917-2003)، وعنده أن ” صناعة المستقبل”، هو الطريق الأكثر أمانا وسلاما، ضمانا وإستقرار، للتنبؤ بالغد .
في هذا الإطار يتساءل المرء كيف لنا أن نمهد الدروب لسلام حقيقي، من غير رياء أو كبرياء، بعيد عن المحاصصة الطائفية، والصراعات المذهبية ؟
الجواب المكين، نجده عند أئمة المؤمنين ومنارات الدين، أي ديم سماوي، وحتى أصحاب المذاهب الوضعية، وما يزرعونه في عقول الأطفال من توجهات ستظل قائمة وقادمة عبر مسيرتهم الحياتية، وقديما قالوا إن التعليم في الصغير كالنقش على الحجر .
في هذا السياق يأتي الحديث عن المنتدى السادس للشبكة العالمية للأديان من أجل الأطفال، والذي ينعقد في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، في الفترة من 19 إلى 21 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تحت عنوان ” الطفل ينادي ..التعاون بين الأديان لبناء عالم مفعم بالأمل للأطفال “.
يمثل المنتدى مبادرة من أعمال منظمة ” أريجاتو الدولية”، تلك الشبكة العالمية للأديان من أجل الأطفال، والتي تعد أكبر شيكة للحوار بين الأديان في العالم مخصصة للأفراد والمنظمات المعنية بحماية حقوق الأطفال وتعزيز رفاههم.
في مقدمة المؤسسات الدولية الفاعلة المشاركة بحضور وألق فكريين، ضمن هذا المنتدى، يأتي مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات،” كايسيد” في لشبونة، والذي يترأس وفده الأمين العام للمركز الدكتور ” زهير الحارثي “.
يؤمن كايسيد بأن الطفل هو حجر زاوية المستقبل، وعليه فكيفما يتشكل فكره، ويستوي ضميره، سيضحى رجل المستقبل.
يرى الدكتور الحارثي، أن التحدي الرئيس اليوم يتمثل في تحديد الدور الأكثر فعالية الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات والقيادات الدينية في المساهمة في تنفيذ القوانين والممارسات لحماية حقوق الأطفال، حيث ليس هناك شك في أن المؤسسات الدينية تعتبر لاعبًا رئيسًا لضمان حماية الأطفال وكرامتهم وصحتهم وحقوقهم الأساسية التي توفرها المؤسسات الدينية الخاصة والهيئات الحكومية.
عطفا على ذلك، فإن العالم في حاضرات أيامنا، وربما من سوء الطالع، يمر بفترة مفصلية شديدة الخطورة والوعورة، حيث صحوة القوميات، وإرتفاع أصوات الشعبويات، والعودة من عالم اللقاء وفرحه، إلى ضيق الأدلجة وتزمتها، ويخشى المرء من أن تكون السنوات القادمة موقعا وموقعا لمواجهات يمينية، وتطرفات أصولية، سوف تدفع أكلافها العالية والغالية، الأجيال البريئة في الحل والترحال .
يعتبر القس ” كيشي مياموني”، رئيس منظمة أريجاتو الدولية، ومنسق الشبكة العالمية للأديان من أجل الأطفال أنه :” على الرغم من الحالة المتوحشة التي تسود العالم من حولنا، يبقى إيماننا راسخا بقوة الإيمان والوحدة والأمل، وبفضل العمل المشترك، ومن خلال الحوار والدعاء، بإمكاننا أن نصنع عالما آمنا ومستقرا ومستداما لجميع الأطفال “.
لقد علمتنا تجارب العقود الأخيرة أن الذين رفعوا رايات التطرف والإلغائية للآخر، هؤلاء، لم يأتوا من كوكب آخر، ولكنهم خرجوا من بين صفوفنا، كانوا أبناءنا، لكنهم تربوا منذ نعومة أظفارهم على أن الدين هو احتكار للإيمان، وأن الإيمان هو احتكار للحق، وأن كل من هو خارج الدين هو خارج الإيمان ومعاد للحق.
منتدى أبو ظبي في واقع الحال، يخبرنا أن العلاقة بين الأديان والطفولة، علاقة جوهرية عميقة، تعيد ترتيب الأوضاع من غير تغيير لحسن الطباع، ومن هنا تتجلى
مسؤولية علماء الدين في وجوب العمل على إعادة الإيمان إلى قواعده الأساسية، وهي الرحمة والمحبة والحرية وحفظ كرامة الإنسان، بما في ذلك كرامة الأطفال وحقوقهم، وفتح مسارب اللقاء والتعارف، مع الأخر، الذي يكمل به وجودنا.
والشاهد أن كايسيد، وطوال مسيرته التي تقترب من عقد ونصف من الزمن، عمل جاهدا في طريق تعبيد المعاني الأخلاقية، وشيوع وذيوع الأهداف الإنمائية، الروحية والإنسانية، والتي من دونها يبقى الحديث عن التنمية المستدامة في الحجر غير ذات جدوى، فالإنسان هو القضية والإنسان هو الحل، أول الأمر وأخره .
يعمل كايسيد منذ البدايات، وحتى الساعة على تمكين الجهات الفاعلة الدينية، والنساء والشباب، بإعتبارهم جهات فاعلة أساسية في جهود بناء السلام والإدماج الإجتماعي في جميع أنحاء العالم، ولهذا تمد المنظمات الدولية أياديها، راغبة في مراكمة نجاحات مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي ، والذي بات شمعة تضيء بالنور، وتطرد الديجور في الكثير من البقاع والأصقاع حول العالم .
يلفت كايسيد دائما وأبدأ إلى أن أزمات التشدد والتطرف، وكافة الإشكاليات الحياتية المعاصرة ، إنما نشات وبزغت في أحضان الطفولة عينها، ولم تكن بعيدة عنها في يوم من الإيام ، ومن هنا يبدو الترابط جذري وعضوي بين الطفولة وبين دور القيادات الدينية المسؤولة عن تنشئة أطفال اليوم في عالم مفعم بالأمل ، ممتلئ بالرجاء .
يمكن لتفسيرات الأديان، ولا نقول الأديان نفسها أن تكون صيفا أو شتاء، بمعنى أن توفر أجواء من المودات الانسانية الفاعلة والمؤثرة بمحبة ومودة لأطفال الغد، ومن الممكن لها أيضا أن تضحى لهيبا مستعرا وجحيما قائما وقادما .
من هنا تتجلى أدوار القيادات الدينية القادرة على توجيه الدفة نحو الآخر بصفته المكمل والمتمم لوجودي، وليس النظرة التي تحمل الشك والتخويف الذي يصل إلى حد التخوين وجميعنا يتذكر المقولة الشهيرة للفليلسوف الفرنسي الوجودي الاشهر :”جان بول ساتر ” والتي ذهب فيها إلى أن الآخرين هم الجحيم.