قال لي صديقي، غاضباً وهو يحاورني إنه يعجب أشد العجب حين يجد من بين أبناء مصر من يناصبون الأزهر الشريف وشيوخه وعلماءه العداء، و ينعتونهم بالشرك والكفر أحيناً، وبعضهم يدعون المشيخة ولهم جمهور ورواد، ومهما حاولت معهم لا تجد إلا غلظة وحنقاً، وأنه لا يدري مبرراً لذلك من قبل البعض على اختلاف ثقافاتهم ودرجات تعليمهم.
فقلت له: هون عليك يا صديقي فإن الأزهر جبل أشم لا يفت فيه بعيض ذرات ريح من هنا أو هناك، ومن يعرف الأزهر يعلم أنه لا يهاجمه إلا جاهل أو حاقد أو مستعمل، فالأزهر هو الحصن الأكبر لعلوم الإسلام في العالم الإسلامي كله، وهو قلعة الوطنية الأعرق، وقد تجاوز عمره الألف والخمسين سنة، فقد هضم علوم الدين والدنيا، وأبدع فيها وشرحها وصدرها للجزيرة العربية نفسها والعالم أجمع، وهو العمدة والحجة والمرجع لمن أراد تفقهاً في الدين وعلومه، واللغة العربية وآدابها، فهو أقدم جامعة عالمية متكاملة، احتضنت أروقته الملايين من طلاب العلم وشيوخه من كل الأصقاع، فصار قِبلة العلم، ومنهل الوسطية، ومنارة الإسلام الشامخة، متحملًا مسؤوليته العلمية والدينية والوطنية والحضارية تجاه الوطن والأمة الإسلامية كلها.
كان الأزهر حاضنة لنحو عشرين علماً قبل أن تنشأ جامعته الحديثة ومن هذه العلوم: الفقه، وأصول الفقه والتفسير والحديث رواية ودراية ومصطلح الحديث والتوحيد والحكمة الفلسفية، والتصوف والنحو والصرف والمنطق والمعاني، والبيان والبديع والحساب والجبر والمقابلة والفلك واللغة والوضع و العروض و القوافي والهيئة، لذا كان أبناء الأزهر هم الركيزة والذخيرة لكل عصر مر بمصر، وكانوا عماد الدولة في كل ميدان، على تعاقب الدول بعد سقوط الدولة الفاطمية التي أنشأت الأزهر عام 970 ميلادي.
والأزهر هو عنوان الوسطية والاعتدال، لذا يثق فيه أبناء الأمة الإسلامية قاطبة على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، ولا يوجد شبر على ظهر البسيطة إلا ترك الأزهر به علامة من فكره ومنهجه، وهو لم يهادن يوماً، ولم يشهر يوماً سيف التكفير الذي رفعه المتطرفون الذين خرجوا علينا من الفيافي ومن رحم أعداء الأم، بل إنه تعرض لهجوم كل دعاة الحرية المزعومة لتكفير داعش إلا أنه رفض، وقال إنه لا يمكنه تكفير من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقال بأنهم محاربون لله ورسوله ومفسدون في الأرض لهم جزاؤهم وعقوبتهم المعروفة، وليس من بينها التكفير، ولا يمكن لمن يحارب التطرف والإرهاب والتكفير أن يستخدم سلاح التكفير في وجه أحد.
و الأزهر بنفسه يتصدى لبعض أبنائه حينما تزل بهم القدم، فكان موقفه صارماً من أحد أبنائه الذي أثار البلبلة بفتوى جواز إرضاع الكبير وأجاز أن ترضع الموظفة زميلها، ولمن أجاز نكاح زوجته المتوفاة، ولمن أجازت معاشرة البهائم، وكذلك لمن ترخص في مقام النبوة ومن حاول إسقاط شطر الشهادة، وبارك مساواة الرجل بالمرأة في الميراث وغيرهم، ولمن أراد أن يعد التبرج أو عدم الحجاب مبرراً للاعتداء، وكان الأزهر ملاذ المظلومين، وتصدى لجور الحكام عبر تاريخه، وجهر بالحق في وجه كل محتل أو مختل أو غاصب، وصدع بما يمليه عليه ضميره وواجبه في وجه أعتى الظالمين والمستبدين، ولم يفلح أي طاغية مهما كان جبروته أن يرغم الأزهر على الإفتاء بالهوى.
___________
نقلا عن اللواء الاسلامي
٥٦ د
رد