أنطلقت في الأيام القليلة الماضية ، في العاصمة الأردنية عمان، أعمال ” الملتقى الإقليمي للحوار ونبذ خطاب الكراهية”، ضمن برنامج “زمالة الصحافة للحوار ” لعام 2025، الذي ينظمه مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات،” كايسيد ” في لشبونة بالبرتغال .
جاءت أعمال الملتقى في وقت أضحت فيه قضية الحوار ليست ترفا ، بل ضرورة أخلأقية ووجدانية، وطنية ومهنية ، وأداة من أدوات السلم المجتمعي ، لا سيما في ظل حالة السيولة المعلوماتية التي تشهدها البشرية، وإنفجار فقاعة وسائل التواصل، التي تجاوزت في تاثيرها كافة وسائل الإعلام التقليدية القديمة، تلك التي يمكنها أن تصنع صيفا أو شتاء، بمعنى أن تفتح مسارات ومدارات التلاقي بين البشر، أو تعزز من حالة الجسور القائمة في القلوب قبل العقول .
يعن لنا هنا أن نتساءل :” ما هي الأهمية الحقيقية لمثل هذا الملتقى الذي عقده كايسيد، ضمن الإطار الأوسع الخاص ببرنامج الزمالة الخاص بالصحافة للعام الجاري ؟
الشاهد أن رسالة كايسيد التنويرية، ذات الملامح التسامحية، والمعالم التصالحية، تأخذ في تقديرها أمرين :
الأول : هو أن فائض الكراهية حول العالم أضحى مهددا لحياة البشر في شرق الأرض وغربها، شمالا وجنوبا ، والمتابع للحوادث والأحداث في السنوات الأخيرة، يدرك هول ما يجري، لا سيما أن الكارثة اليوم باتت في تحول الأمر من خلافات إيديولوجية نسبية ، إلى أختلافات عقدية دوغمائية، وهذه الأخيرة، لا تقبل فكرة قسمة الغرماء، وإنما تسعى في طريق العزل والإقصاء والإستبعاد .
الثاني : هو أن العالم اليوم تكاد تتحكم في مفاصله الرئيسية وسائل الإعلام التي تروج المعلومات، تلك التي لم يعد المرء قادرا على التحقق من مصداقيتها، وتبدو الخليقة وكأنها أبتليت بداء قاتل خطير، داء ” الأخبار المزيفة” الكفيلة بزرع حقلنا البشري بالأشواك صباح مساء كل يوم .
تكتسي مبادرات كايسيد المتعددة، وفي المقدمة منها برنامج زمالة الصحافة أهمية كبرى في حاضرات أيامنا، من منطلق أن القائمين على الفكر والإعلام، هم أصحاب المقدرة الحقيقية في تكوين الرأي العام، وبلورة إتجاهات الحقائق في كافة أنحاء الأرض ، وكثيرا ما أشرنا إلى القول التاريخي ،من أنه في زمن الإمبراطورية الرومانية، كان من يعطي الخبز، هو القادر على أن يفرض شريعته، واليوم يبدو من يتحكم في وسائل الإعلام، هو الموجه للأحداث.
على أن الأمر الأكثر أهمية الذي يضيفه كايسيد بالنسبة لمتدربيه، هو خلق روح الضمير الإنساني الحي والخلاق، لا سيما وأن البشرية على مشارف مرحلة جديدة، مثيرة وخطيرة من عالم الذكاء الإصطناعي والذي تجعل أدواته من الصعوبة الشديدة للغاية التفريق بين ما هو حقيقي، وما هو مزيف، بين ما هو أصيل، وما هو منحول .
هنا لن يستطيع التفريق سوى أولئك الذين أعتادوا على التمييز العقلي والنقلي، بقوة حضور إنساني وإيماني، وهي مكتسبات يوفرها كايسيد لزملاءه ومتدربيه عبر عقد ونصف من الزمن تقريبا من الأعمال الناجحة على مستوى المسكونة .
جاء ملتقى كايسيد ، والمنطقة العربية تئن تحت الكثير من الضربات، وفي تقدير صاحب هذه السطور، أن أخطرها هو الإنقسامات الداخلية، والعودة إلى عالم المحاصصات الطائفية، وقد أحسن القائمون على أعمال الملتقى، حين أصدروا بيانا بشأن سوريا البلد العربي الشقيق، والذين يعاني من النزاعات الطائفية، وفيه اعربوا عن قلقهم إزاء تطورات الأوضاع هناك، مؤكدين على ضرورة التهدئة والحفاظ على السلم الأهلي .
والثابت أن أهم ما جاء في بيان كايسيد الأخير، الصادر من عمان، هو مناشدته جميع القيادات الدينية ، والمجتمعية، والإعلامية، ومطالبتهم بتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية والوطنية في مواجهة خطاب الكراهية، والعمل معا لبناء خطاب جامع يرشح قيم السلام والعيش المشترك ، بعيدا عن التخوين أو الإقصاء .
الذين يعرفون كايسيد تمام المعرفة، يدركون أن مفكريه والقائمين على شؤونه، لطالما أهتموا بالدور الريادي للقيادات الدينية والإعلامية، تلك التي تتمتع بدور فعال في تعزيز التماسك الإجتماعي ، ومع تصاعد موجات الكراهية حول العالم، عمل كايسيد جاهدا عبر مؤتمرات وندوات وملتقيات، على تعزيز العيش والمواطنة المشتركة، ومناهضة مثل ذلك الخطاب الذي يستدعي من بطون التاريخ، صيحات شعبوية وعرقية، لم تقدم للعالم من قبل سوى الدموع والدماء ،كما رأينا في النصف الأول من القرن العشرين .
في هذا المجال يمكننا القول أنه لن يمكن مجابهة ومواجهة خطاب الكراهية ، من غير إجماع كافة الزعماء السياسيين والإجتماعيين والدينيين على إدانة استخدام الدين للتحريض على الكراهية والعنف، أو لتبرير أعمال العنف أو التهجير أو القتل أو الإرهاب .
تبدو الإنسانية اليوم أمام مفترق شديد الخطورة والوعورة، مفترق قد يقودها إلى دوائر الحروب العالمية مرة جديدة، والسبب الواضح هو غياب قنوات الحوار، وإنعدام فلسفة الجوار ، وبدونهما سوف يضحى الأخر أبدا ودوما هو الجحيم الذي تكلم عنه الفيلسوف الوجودي الفرنسي سارتر ذات مرة، عوضا عن أن يكون فرح اللقاء هو الحل .