«إن أردت أن يكون لك عزٌّ لا يفنى، فلا تستعزَّ بعزٍّ يفنى، ومَن ظن أن فى قبضته الدنيا، فليفتح يده آخر العمر، ليرى أنه كان يطارد ظلّاً، ويقبض على الريح».
ثمة لحظات فى التاريخ تلمع كالنصر، فإذا بها خدعة بصرية تسبق السقوط، ولذلك إذا أردنا أن نكتب توصيفاً لقصة الإخوان كلها من البداية إلى النهاية، فلن نكتب إلا أنه مرت لحظة على هذه الجماعة خُيِّل لها فيها أنها أمسكت بمفاتيح السماء، بينما هى بالكاد فتحت باباً إلى العدم.
والسلطة كاشفة أيها الناس، فهى لا تمنح صاحبها ما لا يملك، بل تفضح ما كان يخفيه، ولذلك حين صعد الإخوان إلى سدّة الحكم، لم يتغيروا، بل تكشّفوا.
خرجت تلك الجماعة من جُبّ الدعوة التى أوهموا الدنيا أنهم ما خرجوا إلا لها ليتضح لنا أنهم أفاعى السياسة، ومن تحت عباءة الدين ظهر الغرور، ومن بين شعارات «النهضة» تسلّل الفشل، ومن بين رايات «الشرعية» تفجّرت الكراهية.
لم يبدأ سقوط الجماعة يوم نزلت عن العرش، بل يوم ظنّت أن العرش صار لها أبدياً.
يوم وقفت فوق المليونيات تنظر للجماهير لا كأحرار، بل كجنود فى طابور البيعة.
يوم نظرت إلى قضاة المحكمة الدستورية لا كرجال قانون، بل كخصوم يجب حصارهم.
يوم ظنّت أن كاميرات الإعلام يجب أن تُدار بأمر من مكتب الإرشاد، لا بحريّة الرأى.
يوم اعتقدت أن مصر صارت مزرعة صغيرة لطائرٍ اسمه «النهضة»، لم يُحلّق يوماً إلا فى خيالهم.
فى الشهور الأولى من حكم جماعة الإخوان، لم يكن الشعب أمام «مشروع نهضة»، بل أمام استعراض فجّ للتمكين، وسلوك جماعى مشبع بالغرور والانفصال عن الواقع. كان المشهد كأنه خروج من السراديب لا إلى نور الدولة، بل إلى وهم الخلافة.
فبعد ثلاثة أشهر من توليه السلطة، وقف محمد مرسى فى استاد القاهرة فى 6 أكتوبر 2012، ليلقى خطاباً بدا فيه وكأنه زعيم فُتحت له الدنيا، لا رئيساً انتُخب بشقّ الأنفس فى سباق انتخابى كاد يخسره.
فى هذا الخطاب الجماهيرى، استخدم «مرسى» عبارات تؤكد أن «الشرعية» باتت خطاً أحمر، وأنه يتحدث باسم «الثورة» لا باسم الدولة. بدا الرجل كأنه يوجّه رسائل لا إلى الداخل فحسب، بل إلى التاريخ أيضاً. كان الخطاب مزيجاً من استعراض القوة، والتحدى، والإيحاء بأن «التمكين قد تم»، وأن الجماعة صارت قدراً لا يُرد. لم يكن هذا خطاباً لرئيس دولة يسعى إلى طمأنة الجميع، بل خطاب جماعة تعلن: نحن هنا، والدولة صارت لنا. حينها بدأت الأمور تتكشف شيئاً فشيئاً، وأخذت الوعود تتساقط على أرض الواقع، وأولها وعد مشروع النهضة، فقد كان من أبرز ما رفعه الإخوان قبل وبعد الانتخابات ما أسموه «مشروع النهضة». الذى تم الترويج له باعتباره تصوراً متكاملاً يربط بين التنمية والدين والهوية والثورة، وزعموا أن ألفاً ومائتى عالم متخصص من علماء الإخوان وضعوا هذا المشروع!!. لكن سرعان ما تبيّن أن هذا المشروع لم يكن أكثر من شعار فارغ. لم نعرف أنه أكذوبة من خصوم الإخوان، لكن من فم الإخوان أنفسهم، ومن فمهم ندينهم.
ففى أغسطس 2012، فجّر خيرت الشاطر، الرجل الأقوى داخل الجماعة، مفاجأة صادمة حين صرّح، أمام مجموعة من رجال الأعمال، أن «مشروع النهضة ليس مشروعاً مكتملاً، بل هو مجرد فكرة قابلة للتطوير، ومطروحة للنقاش، وليس برنامجاً محدد المعالم».
كان هذا التصريح كاشفاً، فقد اعترف صاحب السلطة الفعلية فى الجماعة، أن ما تم بيعه للناس فى الحملات الانتخابية لم يكن سوى غلاف دعائى، بلا مضمون حقيقى. ومن يومها، صار «مشروع النهضة» فى وعى الناس أشبه بطائر خرافى: فلا أحد رآه، ولا أحد صدّق أنه وُجد أصلاً.
ثم ظهر عداؤهم لمؤسسات الدولة بشكل صريح وحاد، ففى مطلع ديسمبر 2012، بدأ مشهد بالغ الخطورة: أنصار الإخوان، وأفراد التنظيم من عدة محافظات تجمعوا بدعم من الجماعة، وكان الهدف هو الحصار، فكانت السقطة الكبرى، حيث حاصروا مبنى المحكمة الدستورية العليا، وهى أرفع سلطة قضائية فى البلاد. وكان الهدف من هذا الحصار هو منع القضاة من إصدار حكم منتظر بشأن بطلان الجمعية التأسيسية التى وضعت دستور 2012، وبطلان تشكيل مجلس الشورى.
فكان أن استمر الحصار أكثر من أسبوعين، تم خلاله تعطيل جلسات المحكمة، ومنع القضاة من دخول المبنى، تحت مرأى ومسمع من النظام الإخوانى الذى يحكم، بل برضاه الصريح. فسقطت فى تلك اللحظة كل شعارات احترام القانون، وظهر الوجه الحقيقى: القضاء عدو، لأنه يقف فى طريق الجماعة، و«الشرعية» هى شرعية الجماعة فقط.
وكان رئيس المحكمة، المستشار ماهر البحيرى، قد صرّح آنذاك بأن: «هذا لم يحدث فى تاريخ القضاء المصرى، قضاة يُمنعون من دخول محكمتهم!»، فى إشارة إلى تحول دولة الإخوان إلى أداة قمع، لا حامية للعدالة.
لم يكن هذا فقط، فهذا قليل من كثير، ففى مارس 2013، تكرّر المشهد فى موقع آخر. حيث كان هذه المرة أمام مدينة الإنتاج الإعلامى، وقتذاك احتشدت مجموعات من أنصار الجماعة، وقياداتها، بل وبعض المنتمين لتيارات إسلامية أخرى، فى حصار رمزى وفعلى للقنوات الفضائية المعارضة لمرسى.
وفى هذا الحصار، رُفعت شعارات ضد الإعلاميين، وتم الاعتداء على بعضهم لفظياً وجسدياً، فى أجواء ترهيب علنى. وقام المتظاهرون بتشييد خيام أمام بوابات المدينة، ومنعوا دخول وخروج بعض العاملين، فى سابقة خطيرة أعادت إلى الأذهان محاكم التفتيش.
والغريب، بل والمتوقع، أن الرئاسة لم تُدن الحدث، بل بدا كأنها تباركه. وفهم الجميع أن الحاكم الحقيقى لا يحتمل النقد، وأن «الشرعية» لا يمكن أن تُمس، حتى بكلمة.
فى تلك الفترة أيضاً، أثارت الرئاسة جدلاً واسعاً حين بدأت فى استقبال شخصيات عربية مشبوهة، بعضها مطلوب فى قضايا إرهاب، أو ينتمى لتنظيمات متطرفة. من بين هؤلاء، قيادات من حماس، وأفراد محسوبون على تيار «الجهاد العالمى»، والقاعدة، جاءوا إلى مصر والتقطوا الصور مع «مرسى» ومع مسئولين فى القصر الرئاسى وهكذا، لم تكن زيارة رموز الإرهاب إلى قصر الاتحادية مجرد لقاء بروتوكولى أو مجاملة سياسية، بل كانت فى جوهرها أشبه ما تكون بإعلان احتلال رسمى، وصك ملكية رمزى تُرفع فيه رايات الغزاة على قصر الحكم، بعد أن فُتحت لهم أبواب الدولة من الداخل، لا من خارجها.
واحتفل الإخوان فى مناطقهم ومقراتهم وهم يصيحون: لقد تحققت نبوءة سيد قطب التى قالها فى كتبه ورددها مرسى فى أحد مؤتمراته حين قال: «سنفتح مصر فتحاً إسلاميّاً جديداً». كان يظنّ أنه صلاح الدين، لكنه لم يكن سوى مندوب تسليم وتسلم؛ ساعى بريد يسلم البلاد إلى أصحاب الوكالة الكبرى.
لم يكن «الفتح» الذى تحدث عنه سوى فتح فى جدار الدولة الوطنية، وثغرة واسعة فى جدار الوعى، تسرّب منها العفن، وانطلقت منها كل غربان التكفير التى ظنّت أن ساعة التمكين قد دقّت، وأن «الاتحادية» أصبحت دار خلافة، لا دار رئاسة.
لكن الفتح المزعوم كان بداية الانكشاف، وكان المشهد، بكل ما فيه من وجوه محروقة وأصوات مأجورة، إيذاناً لا بالتمكين، بل بقرب الزوال، فالزمن لا يرحم من يفتح وطنه باسم الدين، ولا التاريخ يصفح عمن يسلّم الراية لمن رفعوها على جثث الأبرياء.
لقد دخلوا قصر الاتحادية كفاتحين، لكنهم خرجوا منه بعد حين كالهاربين.
……………………………..
نقلا عن الوطن