المراقب : وحدة الدراسات
ربما يبدو من الصعب تقديم تعريف جامع مانع للبروفيسور الأميركي جيفري ساكس، لا سيما أنه أحد أهم الأصوات الأميركية المعاصرة ، حضورا وألقا، حتى لو قدر له الإختلاف الواسع والشاسع ، مع أركان إدارة الرئيس ترمب، وكذا مع تيار ” أميركا العظيمة من جديد”، عطفا على مواقفه الحاسمة والحازمة من دولة إسرائيل.
ولعل الذين يستمعون إلى لقاءت الرجل، وأولئك الذين يتابعون كتاباته، يدركون كيف أنه يمثل صوتا صارخا في برية عالمنا المعاصر، والتي تحتاج إلى مفكرين نهضويين، لا نهبويين، وفي الحق يجئ ساكس في مقدمهم.
تجاوز ساكس اليوم السبعين عاما، فهو من مواليد العام 1954، ورغم أن مجال تخصصه الرئيس هو الإقتصاد، إلا أم حضوره الدولي يتجاوز جمود النظريات الإقتصادية، إلى رحابة الرؤى الكونية، لا سيما في عالم يتحرك بسرعات هائلة، في زمن الذكاء الإصطناعي، والحوسبة الكمومية ، ناهيك عن الرقائق الإصطناعية .
في الأشهر الأخيرة التي تلت فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالولاية الثانية، ومع التوجهات المثيرة لسيد البيت الأبيض وأخرها، نشر قوات الحرس الوطني في العاصمة واشنطن، بدأ الجميع تواق داخل أميركا وخارجها للإستماع إلى البروفيسور ساكس، ورؤاه عن أميركا والعالم، وبصورة خاصة، وإنطلاقا من مجال تخصصه الرئيس أي الإقتصاد ، عن الآثار المتوقعة لفكرة التعريفات الجمركية التي فرضها ولا يزال يفعل الرئيس الأميركي ، وقد كان أخرها ما فعله مع الهند التي تعتبر حليفا رئيسا للولايات المتحدة، كنوع من العقوبات بسبب شراءها للنفط من روسيا .
عبر مجلة الفورين بوليسي الأميركية ذائعة الصيت، يوصف ساكس المرحلة الحالية من تاريخ البشرية ، ويصفها بأنها غير مسبوقة ، وذلك نتيجة لتلاقي ثلاثة إتجاهات مترابطة : أولا ، وهو الأهم، أنتهى النظام العالمي الذي يقوده الغرب ، والذي تهيمن فيه دول منطقة شمال الأطلسي على العالم عسكريا وإقتصاديا وماليا .
ثانيا ، ستؤدي الأزمة البيئية العالمية التي أتسمت بتغير المناخ الناجم عن أنشطة الإنسان، وتدمير التنوع البيولوجي ، والتلوث الهائل للبيئة ، إلى تغييرات جذرية في الإقتصاد العالمي والحوكمة .
ثالثا ، سيُحدث التقدم السريع في التقنيات في مجالات متعددة ، الذكاء الإصطناعي ، الحوسبة ، التكنولوجيا الحيوية، الهندسة الجيولوجية، إضطرابا عميقا في الإقتصاد والسياسة العالميين.
هل تعني كلمات ساكس هذه أن حالة عدم اليقين هي الثابت الوحيد في حاضرات أيامنا ، وأن ما خلا ذلك متغيرات ؟ وإذا كان الأمر بالفعل على هذا النحو فإن علامة الإستفهام التي تطرح ذاتها في هذا الإطار :” هل المؤسسات الدولية الحاضرة ، والتي أنبثقت عن نهاية الحرب العالمية الثانية، لاتزال تعد صالحة للعمل في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟
يعتقد ساكس جازما، أن المؤسسات الأممية القائمة ، سواء الوطنية أو الدولية، لا ترقى إلى مستوى الحوكمة في عالمنا سريع التغير .
يعود بنا ساكس إلى ما قاله عالم الأحياء التطوري الراحل الكبير “إدوارد ويلسون ” 1929- 2021،من أننا ” دخلنا القرن الحادي والعشرين متعثرين بمشاعر العصر الحجري، ومؤسسات العصور الوسطى ،وتقنيات شبه إلهية “، وكان يقصد بذلك أننا نواجه تحدياتنا اليومية بالطبيعة البشرية المعرفية والعاطفية الأساسية التي شكلها التطور البشري قبل عشرات الآلاف من السنين ، وبمؤسسات سياسية تشكلت منذ قرون ( وضع دستور الولايات المتحدة عام 1787)، وبسرعة التقدم التكنولوجي الهائلة ( فكر في التشات جي بي تي وكيف أنه أحدث العجائب.
هل من حقيقة مؤكدة تواجهها بشريتنا المعاصرة ؟
بحسب المفكر الأميركي ، لعل الحقيقة الأساسية للتغير المجتمعي العميق هي عدم اليقين ، ورد الفعل الأساسي عليه هو الخوف .
هناك في واقع الأمر تناقض جوهري ربما يعيق مسيرة إنسانيتنا المهددة، ذلك أنه فيما يمكن للتقدم التكنولوجي – إذا أستخدم بشكل صحيح- أن يحل مشاكل لا تُحصى في التنمية الإقتصادية ، والعدالة الإجتماعية( مثل تحسين الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم من خلال الإتصال الرقمي ) والإستدامة البيئية، مثل الإنتقال السريع إلى مصادر طاقة خالية من الكربون، إلا أنه رغم كل ذلك، فإن المزاج السائد اليوم بعيد كل البعد عن التفاؤل وخاصة في الغرب .
حين يتوقف ساكس مع الغرب ، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه وبقوة على موائد الحوار :” كيف ينظر الرجل للهيمنة التاريخية للغرب ، تلك التي استمرت قرابة خمسة قرون، وهل يمكن أن تمضي من جديد إلى الأمام ، أم أن الوقت قد حان لتغيير التراتبية الأممية، لا سيما حال ظهور قوى قطبية أخرى مغايرة ؟
مع الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية في مايو أيار المنصرم، قدم ساكس عبر مجلة “ناشونال أنترست الأميركية ” ثلاثة سيناريوهات لنظام عالمي جديد ..
** السيناريو الأول :يتمثل في بناء عالم متعدد الأطراف بحق. ولتحقيق ذلك ، يرى أن البشرية المعاصرة في حاجة إلى نظام دولي متطور تتفق فيه جميع القوى الكبرى على الإستثمار في سيادة القانون الدولي والحل السلمي للنزاعات. وهذا يتطلب تطوير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ، ومؤسسات الأمم المتحدة بشكل عام .
ولعل ما يكسب ساكس حضورا وألقا عالميين، هو تفكيره خارج الصندوق، ذلك أنه يتمنى رؤية مقر رئيسي للأمم المتحدة في الصين، للمساعدة في قيادة التحول الأخضر والرقمي عالميا.
يتمنى المفكر الإقتصادي الأميركي أن يرى الصين والهند تتعاونان بشكل وثيق في الأمم المتحدة ، بما في ذلك نحو مقعد الهند في مجلس الأمن . كما يتمنى أن تدعم الصين الإتحاد الإفريقي ليلعب دورا أكبر بكثير من الحوكمة العالمية .
يحلم ساكس بأن يرى الصين واليابان وكوريا تنهي الإنقسامات الجيوسياسية وتشكل تحالفا قويا في شمال شرق آسيا . والأهم في هذا السيناريو ، ان تقبل الولايات المتحدة وأوروبا الدور المتنامي للصين والهند وبقية العالم الغربي .
السيناريو الثاني : يتعلق بتراجع العالم الغربي ، فيتجه نحو الحمائية، حيث تحاول الولايات المتحدة تقسيم العالم إلى معسكرات . وعنده أنه ربما تكون هذه الإستراتيجية الأميركية المرجحة ، لكنه في الوقت عينه يعتقد أنها أسوأ بكثير بالنسبة للولايات المتحدة وبقية العالم من السيناريو الأول ، ويوصي بأنه على الولايات المتحدة التخلي تماما عن فكرة بناء معسكرات متنافسة .
السيناريو الثالث : هو أننا لا نملك نظاما عالميا على الإطلاق ، بل فوضى متزايدة ناجمة عن تغير المناخ والحروب والصراعات الجيوسياسية . هذا السيناريو المُريع إحتمال حقيقي.
رؤى ساكس في واقع الأمر وفاقية لا فراقية، ذلك أنه في حين يرى أن المسارات الثلاثة المتقدمة ممكنة، إلا أنه يوصي الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بأن تأخذا نفسا عميقا وتتنهدا وترحبا بالعالم غير الغربي في قيادة عالمية مشتركة . كما يجب على القوى الكبرى لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين والهند ، أن تتفق على منع المواجهات وقطع الطريق على نشوء حروب جديدة.
لساكس قراءات جيو إستراتيجية مثيرة قد لا تعجب القائمين على فكرة ” أميركا أولا ” أو بمعنى أدق أميركا المسيطرة على القرن الحادي والعشرين، بحسب توصيات وثيقة القرن للعام 1997 للمحافظين الجدد.
عوضا عن ذلك، يوصي ساكس بأنه على واشنطن أن تتخلى عن أوهام تمدد وتوسيع نطاق حلف شمال الأطلسي، وبالقدر نفسه وضع حد لإستفزاز الصين من خلال دعم تايوان وإمدادها بالسلاح، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في حدوث مواجهة عسكرية بين بكين وواشنطن، لا تلبث أن تتحول إلى مواجهة عالمية لا إقليمية فحسب.
في هذا الإطار، فإن رؤية ساكس لنظام عالمي معاصر يمكن بلورتها في عبارة مفيدة تتلخص في القول :” يجب على الغرب أن يكف عن التساؤل “من هو رقم واحد ؟” وأن يسأل :” كيف يمكن للعالم أجمع أن يعمل من أجل الصالح العام العالمي؟.
تفتح قراءة ساكس عن ذلك العالم، رؤية واسعة للصين وروسيا ودول أخرى ، يمكن أن تدعم بحماس مثل هذا الجهد التعاوني العالمي الذي يرتكز على الإحترام المتبادل .
ما الذي يتبقى في هذا الحديث عن ساكس ؟
مواجهة إيديولوجية للإبادة الإسرائيلية
يحسب لساكس أنه ورغم عقيدته اليهودية، إلا أنه كان قدم رؤية موضوعية، ومنزهة عن الهوي، فيما يخص القضية الفلسطينية بشكل عام، وما يجري في غزة بصورة خاصة .
في عقب خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أوصى ساكس بأنه يتوجب على العالم كافة، وليس على الولايات المتحدة فحسب أن تتبنى خارطة طريق لمواجهة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة ووقفها .
بدا واضحا أن ساكس يتفهم عقلية نتانياهو، بل ويجرؤ على التنديد بما يخطط له والذي تفهمه ساكس على أنه يريد أن تكون كل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن غسرائيلية ، وبالتالي لقضاء على الدولة الفلسطينية بالكامل .
يؤمن ساكس بأن المتطرفين الإسرائيليين العنيفين بعيدون كل البعد عن الممارسات السياسية والقانون الدولي المعمول به اليوم، بنحو 2600 عام .
غسرائيل بحسب ساكس مُلزمة بميثاق الأمم المتحدة وإتفاقيات جنيف ، وليس بسفر يشوع ووفقا لقرار محكمة العدل الدولية الأخير وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدعمه ، يجب على إسرائيل الإنسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة .
ووفقا للقانون الدولي، فإن حدود إسرائيل هي حدود الرابع من يونيو / حزيران 1967، وليست حدود نهر الفرات حتى البحر الأبيض المتوسط.
يعتقد ساكس صادقا ، أن غياب حل الدولتين هو ما يهدد إسرائيل أكثر من أي شيء أخر .
وفي رؤيته يخبر بأن إسرائيل ترفض حل الدولتين زاعمة قيام دولة فلسطينية ذات سيادة سيعرض أمنها القومي لخطر بالغ . لكن في الواقع والعهدة على ساكس ، فإن غياب حل الدولتين هو ما يجعل إسرائيل في خطر حقيقي ، فإحتلالها غير الشرعي للأراضي الفلسطينية ، وإستمرارها في نظام الفصل العنصري ضد ملايين الفلسطينيين ، وعنفها المفرط في الدفاع عن هذا النظام ، كلها عوامل تعرض بقاء غسرائيل للخطر ، إذ تواجه تهديدات جسيمة من العزلة الدبلوماسية العالمية والحرب الدائرة ، بما في ذلك التكاليف الإقتصادية والإجتماعية والمالية الباهظة للحرب .
ومن جانب مهم بدوره، يؤكد ساكس على أن سعي إسرائيل العنيف لتحقيق رؤيتها المتطرفة لا يخدم أمن الولايات المتحدة أو مصالحها، والشعب الأميركي يعارض تطرف إسرائيل .ومن المرجح أن يفقد اللوبي الإسرائيلي سلطته ، والمرجح أيضا أن يتراجع كل من الشعب الأميركي والدولة الأميركية العميقة عن دعمهما غير النقدي وغير المشروط لإسرائيل .
الخلاصة …جيفري ساكس مفكر أصيل في زمن منحول .
المراقب المراقب موقع مصري شامل يصدر عن شركة القاهرة الاخبارية