وحدة الدراسات
مع أواخر عام 2021 ، بدا للجميع وبخاصة أجهزة الإستخبارات الأمريكية ، أن فلاديمير بوتين ، يعد العدة ، ويجهز لعملية عسكرية خاطفة سريعة ضد أوكرانيا ، وذلك بعد أن فشلت مناداته السلمية في ردع الناتو برأس حربته الأمريكية ، عن التقدم للشرق الأوكراني ، والإقتراب من حدود روسيا الغربية .
كانت التقديرات المتباينة تقول بأن روسيا ستقوم بعملية عسكرية خاطفة ، على غرار عمليات المانيا السابق الإشارة إليها ، في زمن الحرب العالمية الثانية .
كان ميزان الإنتباه العسكري يميل إلى روسيا القوة العسكرية الكبرى من دون أدنى شك ، والتي لا توازيها القوة العسكرية الأوكرانية بأي حال من الأحوال .
كما كانت السيناريوهات الروسية ، وغالب الظن هكذا مضت توقعات الكثيرمن بيوت الخبرة ومراكز الدراسات العسكرية إلى القول، بأنه خلال بضعة أيام سوف تستولي القوات الروسية على العاصمة الأوكرانية “كييف”.
حين شاهد العالم طوابير الدبابات الروسية الضاربة تتحرك جهة الحدود الروسية أول الأمر ، ثم من ناحية بيلاروسيا التي أظهرت دعما غير مسبوق للروس ، لأسباب إستراتيجية تتعلق بمخاوف داخلية وخارجية ، وسعيا لحماية الجانب الروسي ، خيل للعالم أنها مغامرة مشابهة لما جرى في جورجيا من تدخل عسكري سريع عام 2008 ، وأنه في غضون أيام معدودات ، سوف يتم إلقاء القبض على زيلنسكي الرئيس الأوكراني ، عطفا على أركان حكومته وكبار قادة جيشه ، و فرار هولاء إلى خارج أوكرانيا ، وتشكيل حكومة في المهجر ، ومن ثم تنصيب حكومة موالية لموسكو …لكن اليوم وبعد نحو مرور أربعة عشر شهرا يبدو أن تقديرات موسكو لم تكن صائبة .
هل فشلت حرب بوتين الخاطفة؟
يعزى الفشل الروسي في الحرب الخاطفة على أوكرانيا ، والصمود الأوكراني غير المتوقع إلى العديد من الأسباب ، منها ما هو موصول بالقوات الأوكرانية وحضورها ، والإرادة الشعبية القوية للأوكرانيين أنفسهم .
هناك كذلك ما يعود إلى الدعم الخارجي الذي تلقته ولا تزال أوكرانيا من الناتو عامة ، ومن الويات المتحدة اأمريكية خاصة .
بداية يبدو واضحا جدا أن تقديرات الروس للمعركة لم تكن صائبة بشكل كاف، وبنوع متميز المعلومات التي قدمها جهاز الإستخبارات الروسي ، والذي فشل في بلورة إستراتيجية إحتواء لحكومة زيلنسكي ، ناهيك عن إخفاقاته في إقامة نواة صلبة موالية لروسيا ، تُمكن بوتين من إزاحة زيلنسكي من السلطة ، والعهدة هنا على الواشنطن بوست الأمريكية .
لاحقا تكشف أن معلومات جهاز ال ” أف إس بي”، الروسي ، قد كانت سببا واضحا في فشل الهجوم الأساسي على العاصمة الأوكرانية ، وقد تكرر المشهد عينه مع ثاني كبريات المدن ، خاركييف ، ثم وحلت القوات الروسية في العديد من المواقع والمواضع الأوكرانية .
وبالإضافة لذلك ، فإن موسكو لم تقيم مقدار الدعم السياسي الغربي لأوكرانيا ، والذي تحول لاحقا بل وبسرعة كبيرة إلى دعم عسكري ، أدى إلى إطالة أمد المعارك ، ومكن الأوكرانيين من الرد بقوة على أرض المعارك .
هنا ترجع الصحافة الأمريكية ، وبخاصة النيويورك تايمز ، الفشل الذي أحاط بفكرة الحرب الخاطفة الروسية في أوكرانيا إلى إعتماد موسكو على الخرائط القديمة ، والمعلومات الإستخبارية الناقصة ، بل والسيئة ، الأمرالذي جعل دفاعات أوكرانيا الجوية تسلم من الهجمات الروسية ، وتصبح جاهز للدفاع عن البلاد ، على العكس من السيناريوهات العسكرية السابقة التي جرت في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا عام 2014 .
يمكن القطع بأن عالما جديدا من التوازنات القطبية ، وتداخل المشاهد العسكرية ، عطفا على حالة السيولة الجيواستراتيجية الأممية الحالية ، تمنع أية نجاحات قادمة لفكرة الضربات العسكرية الخاطفة ، التي تغير الأوضاع وتبدل الطباع .
على سبيل المثال يصعب هذه الأيام أن يتكرر السيناريو الذي حدث عام 1989 ، وفي أغسطس من ذلك العام ، حين قام صدام حسين بغزو سريع خاطف للكويت ، مستوليا عليها ، ومن ثم أطلق عليها أسم المحافظة العراقية رقم 19 .
أظهرت عملية روسيا في أوكرانيا أن هناك حالة من تشابك الصراعات القطبية الدولية ، بات من المستحيل معها ، تكرار نموذج القوة الخاطفة ، وضربات البرق ، بحسب الوصف الالماني ، فعلى سبيل المثال لم تتمكن القوات الروسية رغم تفوقها الجوي من حسم معاركها في سماوات أوكرانيا ومرد ذلك وجود دعم غربي من صواريخ متقدمة مضادة للطائرات .
أثبتت العلمية العسكرية الروسية كذلك أهمية قوات المشاة في حسم المعارك ، ومع حرص الجيوش الحديثة على أرواح جنودها ، والعمل على تقليل مشاركاتهم والإعتماد على النماذج البديلة ، لا سيما الطائرات المسيرة ،لا يبدو هناك مستقبل للحروب الخاطفة .
هذا ما جرى على أرض المعركة الأوكرانية ، فقد استولت القوات الروسية على اراضي واسعة أكبر مما تستطيع الدفاع عنها ، لكنها ولقلة عدد جنودها ، لم يقدر لها أن تترك الالاف منهم للدفاع عنها ، بل خلفت وراءها جماعات إنفصالية ومجندين غير مدربين أو مجهزين بشكل كامل ، مع معدات قديمة ومطبوعات إرشادية تصف كيفية إستخدام البنادق .
كانت روسيا مهمومة بإرسال قوات للإستيلاء على أراضي جديدة ، ولهذا سقطت الجيوب من جديد ، ولم تتمكن القوات الروسية من تعزيز تقدمها للأمام بصورة قاطعة ونهائية .
على أن هناك بعد جديد من أبعاد الحروب الحديثة ، لم يكن قائما في زمن الحروب الخاطفة السابقة ، وهو بعد الحرب السيبرانية .
فعلى الرغم من نجاحات القوات الروسية من قبل في تفعيل هجمات الكترونية ضد الأوكرانيين ، الإ انه من الواضح أن الدعم الاوربي والأمريكي قد مكنا الأوكرانيين عينهم من صد تلك الهجمات الإلكترونية الروسية ، وعلى هذا الأساس أخفقت المقدمات الهجومية الروسية السيبرانية عن إحداث ثغرات في الجدران الأوكرانية في العالم الرقمي أول الأمر ، وعلى الأرض تاليا .
هل فشلت العسكرية الروسية إذن في حربها الخاطفة ضد أوكرانيا الجار الصغيرنسبيا ؟
غالب الظن أن ذلك كذلك ، ولو لم يكن حكم بوتين قويا ومتينا ، لربما تسبب الأمر في إنفجارات داخلية روسية ، كانت لتقضي على مستقبل بوتين ، سيما بعد الخسائر البشرية الضخمة التي يقدرها الغرب بعشرات الألاف، ولحصلت ثورة مؤكدة في جماعة السيلوفيكي الحاكمة مع بوتين .