وحدة الدراسات
البحث بعمق في جذور الجاسوسية الصينية ، يميط اللثام عن العديد من المفاجأت ، وفي المقدمة منها أن عملية التجسس بدأت داخلية أول الأمر ، وذلك عبر ما كان يعرف بمنظمات الخدمات السرية التابعة للإمبراطور نفسه ، وهدفها الرئيس هو القيام بمراقبة رعاياه، مراقبة تعد عليهم أنفاسهم ، وتقطع الطريق على الجماعات المعارضة للحكم .
هنا كان “خصيان البلاط “، من يقومون على مساعدة الإمبراطور ، وإدارة أمر تلك الجماعات .
وضع الصينيون ، وغالبا يمتد الأمر إلى الآن ، العنصر البشري فوق عناصر التكنولوجيا ، في تجسسهم على الأخرين ، وربما من هنا نشأت رؤية أجهزة الإستخبارات الأمريكية لنظيرتها الصينية ، أول الأمر ، وهو ما سيتغير لاحقا .
يقول الأمريكيون إنهم يراقبون الشواطئ من خلال أقمارهم الإصطناعية ، بينما الروس يرسلون غواصاتهم وضفادعهم البشرية في ظلام الليل للحصول على رمال من الشاطي والعودة بها إلى موسكو ..ما الذي تفعله الصين لمعرفة ما هو كائن على الشاطئ ؟
الأمر يسير للغاية ، إذ تقوم بإرسال ألف عنصر بشري ، مهمة كل واحد منهم ، الحصول على حبة رمل من الشاطئ ، والعودة بها إلى بكين ، الأمرالذي سينتهي بهم لمعرفة المزيد من الرمال أكثر من أي جبهة أخرى .
تعتمد الإستخبارات الصينية في واقع الأمر عدة أساليب في الحصول على ما تريده من معلومات لا سيما الخارجية منها منها ، وقد استفاض في شرحها بتفصيل واسع ، ” ولفغانغ كريكر “، المؤرخ الألماني ، المتخصص في التاريخ الحديث ، لا سيما تاريخ الأجهزة الأمنية ، وذلك في كتابه المعنون :” تاريخ المخابرات..من الفراعنة حتى وكالة الأمن القومي الأمريكي “.
الأسلوب الأول ، يبدو الرهان فيه ، على تسخير الإعداد البشرية الهائلة ، من أجل تجميع أجزاء صغيرة جدا ، عن هدف محدد ، قد يوجد غالبا بعيدا عن الأراضي الصينية ، تلك الأجزاء حين يتم إضافتها جنبا إلى جنب ، يحصل الصينيون على صورة كبيرة واضحة المعالم للهدف المنشود .
فيما الأسلوب الثاني ، فيراهن على تفعيل كل صيني يعيش خارج البلاد ، ويعتبر نفسه جندي مجند لصالح الأمن القومي الصيني .
بينما الأسلوب الثالث ، فهو تقليدي ، ويعتمد على تجنيد العملاء الأجانب ، والذين يرضخون إما للضغوطات وتحت تهديد الفضائح ، أو من جراء الإغراء بالأموال والصفقات ، ما يعني أن فلسفة ذهب المعز وسيفه ، لا تزال قاعدة ناجحة في عالم الإستخبارات العالمية عامة ، والصينية بنوع خاص .
لم تعد الصين مكتفية بتعزيز مواقعها ومواضعها العسكرية حول العالم ، لا سيما في مياه المحيط الهادئ ، حيث يفترض أن تكون هناك معارك القرن المقبل ، مع الولايات المتحدة الأمريكية واستراليا ، بل باتت تسعى في تعزيز مشهد أخر ، صار يزعج القوى الغربية إزعاجا منقطع النظير ، وبخاصة في الداخل الأمريكي ..ما القصة؟
في الأسبوع الأول من يناير كانون الثاني الجاري ، لفتت صحيفة النيويورك تايمز الإنتباه لقصة ” المراكز البشرية الصينية “، والتي تقوم بدور الشرطة التي تلاحق مواطني الصين في الخارج ، حيث يعمل هولاء على إنجاز مهام لحكومة الصين بشكل غير قانوني، ومن دون علم سلطات البلاد الذي تجري فيها تلك الأنشطة ..هل هذا شكل جديد من أشكال الجاسوسية الصينية ؟ وهل هو مقصود بذاته أم أنه يأتي كتغطية على أنشطة أخرى أشد هولا؟
في الخريف الماضي ، داهمت المباحث الإتحادية الأمريكية أحد تلك المواقع في الحي الصيني في مدينة نيويورك ، ضمن تحقيق جنائي موسع لمعرفة أبعاد تلك المواقع التي تثير قلق الدبلوماسيين ورجال الإستخبارات .
كان الموقع واحد من نحو مائة موقع في كندا وهولندا واستراليا ، وكذا في العديد من الدول الأوربية ، والتي يحوم الشك حول دورها المتقدم في خدمة الصعود الصيني القطبي .
المثيرهو أن الصين لم تنكر وجود تلك المواقع ، غير أنها قدمت تفسيرا يعتبره البعض مغايرا ، ويقطع البعض الأخر بأنه مراوغ ، حيث قالت أنها أماكن لمتطوعين يساعدون المواطنين الصينيين على إداء مهام روتينية مثل تجديد رخص القيادة.
لكن هذا التفسير الذي قدمته السفارة الصينية في واشنطن ، لم ينطل على الأجهزة المعنية والتي تعتبر أن تلك المواقع هدفها :” جمع المعلومات الإستخبارية”، من خلال أسلوب لوحة الفسيفساء ، أي الحصول على أصغرالتفاصيل ، والتي لا يمكن إعتبارها أعمال جاسوسية ، وتتخذ منطلق المساعدة في حل الجرائم والتعاون مع المسؤولين المحليين كغطاء لإنشاء أجهزة
عقول طروادية ، قادرة على إختراق الداخل الوطني ، أمريكي كان أم أوربي .
هل هذه المواقع جزء من التخطيط الجديد لشي جين بينغ ، يعزز من خلاله الإمبراطورية الصينية التي تسعى، حتى وإن لم تفصح عن ذلك مباشرة ، لإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية ، من فوق سلم القطبية ، عبر التأكيد على وحدة الداخل، ومن غير إتاحة أي فرصة للمعارضين الصينيين في الداخل، سيما أن هناك من قلب كبار الحزب الشيوعي الصيني ، من لا يرغب في أن تمضي الدولة في طريق المزيد من الشمولية التي يبشر بها حكم بينغ ، بعد رئاسته الدائمة ، وفي محاولة لتأسيس صين جديد ، مغايرة لعهد ماوتسي تونج ؟
__________________
إلى قراءة قادمة بإذن الله .