المراقب : وحدة الدراسات
بعد عودة الحديث عن البترودولار ، ودعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العام الماضي إلى إنشاء عملة إحتياطي جديدة بعيدا عن الدولار ، هل ستكون ضربة البداية ، وصافرة إنهاء زمن هيمنة الدولار على العملات العلامية من قلب القارة الأمريكية اللاتينية ؟
يشكل تكتل الإتحاد المستقبلي لأمريكا اللاتينية الذي يقف خلف هذه العملة قرابة 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ، والمؤكد أن محاولة دول أمريكا اللاتينية هذه ليست الأولى من نوعها ، فقد سبقتها محاولات مشابهة في السبعينات والثمانينات ، أي في أوج إرتفاع أسعار النفط ، غير أن الظروف السياسية الدولية في ذلك التوقيت لم تكن مواتية .
ربما اليوم يختلف عن الأمس ، وبخاصة في ظل نشوء وإرتقاء تجمعات إقتصادية عالمية جديدة ، ملت دولها من إعتبار الدولار ، الذراع الطويلة للهيمنة الأمريكية على المقدرات العالمية .
وعلى الرغم من أن تلك المحاولات السابقة لم تترك تاثيرا على السياق الإقتصادي العالمي ، الإ إن التغيرات الجيوسياسية واسعة النطاق في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين تترك علامات إستفهام واسعة حول ما إذا كان المشهد الدولاري العالمي سيظل على هذا النحو أم سيتغير حتى لو بصور تدريجية مع نهاية العقد الحالي .
مطلع العام الجاري ، صدر عن المجلس الأطلسي في واشنطن ، تقرير عنوانه ” أهم 23 خطرا وفرصة للعام 2023 “، وفيه حديث عن إحتمال مرتبط بإبتعاد عدد من البلدان عن الدولار باسرع مما كان متوقعا .
المثير في تقرير المجلس الأطلسي ، هو أن تلك الدول ليست بالضرورة أعداء لواشنطن ، بل ربما هناك من الأصدقاء أو الحلفاء من يفكر في فك الإرتباط على المدى الطويل تحسبا لتغير مقدرات العالم .
وطبقا للتقرير ، فإن القلق بشأن مستقبل الدولار الأمريكي ، هو جدل تقليدي عادة ما يثار ، لكن تبدو هناك إحتمالية وإن بشكل ضعيف على المدى القصير لإبتعاد مجموعة من الدول من حلفاء وخصوم واشنطن ، دفعة واحدة ، عن الدولار .
في هذا السياق يطفو على السطح تساؤل :” هل روسيا الإتحادية تقود جهودا عالمية ، علنية وخفية ، في سياق توجيه ضربة للدولار الأمريكي ، لا سيما بعد المواجهة مع اوكرانيا ، والعقوبات الغربية برأس حربة أمريكية موجهة إليها ؟
المؤكد أن موسكو كانت صاحبة الخطوة الأول في هذا الإطار ، وقد بدا ذلك في الربع الثاني من العام الماضي ، في محاولة للتغلب على أشد العقوبات الإقتصادية في التاريخ تواجهها من الدول الغربية .
كان التعاطي الغربي مع روسيا جرس إنذار للكثير من دول العالم ، إنذار نبه إلى المخاطر المحدقة بوجود كافة الأرصدة الدولية بالعملة الأمريكية ، وبات التساؤل لماذا الرهان بالمطلق على الدولار ، وها هو العالم يرى مصادرة الدول الغربية لإحتياطيات النقد الأجنبي الروسية الموجودة لديها ، والتي يمكن أن يصيبها في الغد ، ما أصاب موسكو في حاضرات أيامنا .
في الربع الأخير من العام الماضي ، وتحديدا في سبتمبر 2022 ، بدأت الحكومة الروسية في التفكير جديا في مقترح حول شراء ما قيمته ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار ، من اليوان الصيني شهريا ، حتى نهاية العام للمساعدة في وقف صعود الروبل …هل في الأمر تناقض ظاهري ما ؟
مؤكد ليس هناك تناقض ، ذلك أن روسيا تشعر بالقلق من أن الروبل القوي المفرط ، سيؤثر على الإيرادات من بيع السلع الروسية في الخارج مقابل العملات الأجنبية ، ولهذا تدرس شراء عملات الصين والهند وتركيا للإحتفاظ بها في صندوق الثروة النفطية كجزء من خطتها لتحقيق إعادة قاعدة الميزانية .
ما تقوم به روسيا له أكثر من الشق الإقتصادي ، لا سيما إذا أعتبرنا أن السياسة والإقتصاد وجهان لعملة واحدة .
تسعى روسيا لطرح فكرة عالم متعدد الأقطاب ، لا هيمنة فيه لدولة واحدة ، وبالتالي لعملة واحدة ، ولهذا تسعى لتشجيع التبادل بالعملات الوطنية ، أو تبادل السلع ، وفتح آفاق إقتصادية من خلال منظمات إقليمية مثل تجمع شنغهاي وبريكس ، ثم بريكس بلس، وجميعها قادرة وفاعلة ولديها من الإمكانات الإقتصادية والحضور البشري ، ما يكفيها للإنسجام مع روسيا للتخلص من الهيمنة الأمريكية .
على أن علامة الإستفهام المثيرة في هذه القراءة :” هل روسيا وحدها في شرق آسيا من يسعى لكسر أحتكار النفوذ الأمريكي السياسي عبر الدولار ، أم أن هناك قوة أخرى لا تقل حضورا وربما تفوق موسكو من حيث القدرة الإقتصادية ؟
يدرك الصينيون أن معركتهم لتسنم العالم ، والوصول إلى القطبية العالمية ، لابد وأن يمر من خلال بوابة الإقتصاد العالمي ، قبل النفوذ السياسي .
كما أن بكين تعرف تمام المعرفة أن الموازين العسكرية تميل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ، وأن هناك مسافة واضحة في الحال بين القوتين الصينية والأمريكية من ناحية التقنيات والتكنولوجيا والتسليح ، حتى وإن كان لها أن تتقلص خلال العقدين القادمين .
من هنا تبدو خطط الصين لتوجيه ضربات للدولار ، وصولا للإستغناء عنه قائمة وقادمة ، والبداية من عند تخزين الذهب لأغراض إستراتيجية ، تمهيدا للخلص من التعامل بالعملة الأمريكية مرة وإلى الأبد .
في هذا السياق يمكن للمحلل الإقتصادي المحقق والمدقق، أن يدرك لماذا تمضي شركات تعدين الذهب الصينية في طريق تكثيف نشاطاتها لإستخراج المعدن الأصفر النفيس ، وتقبل على شراء مؤسسات صناعية أخرى للتعدين حول العالم بنشاط ملحوظ .
هنا وعما قريب من الزمن ، سوف تصبح الصين صاحبة أكبر مخزون من الذهب حول العالم ، ولهذا تعمق إستثماراتها وتوسعها في قارتين .
البداية من القارة الإفريقية ، حيث تعمل الصين جاهدة على إكتشاف المزيد من المناجم ، وتقديم القروض للدول الإفريقية بشروط ميسرة وبعيدة عن التعقيدات الأمريكية والأوربية المرتبطة بحقوق الإنسان والديمقراطية وما حولهما .
والموقع الثاني في دول أمريكا اللاتينية ، والتي باتت بكين مرتبطة مع غالبيتها بشراكات إقتصادية نفطية ، وتنامي للحضور العسكري، ما يزعج العم سام ايما إزعاج ، وبخاصة أن الحضور يأتي في الخلفية الجغرافية التاريخية له .
لا تداري أو تواري بكين رؤاها المستقبلية ، ولهذا لا تنفك توجه رسائل إلى العالم مفادها أن هيمنة الدولار يجب أن تنتهي ، وهي تدرك أن الإعتماد على الدولار أمر بات يمثل تهديدا وسيفا مسلطا على مستقبل الصين .
في يونيو 2020 قال ” فانغ هاي شينغ “، نائب رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية ، إن إعتماد الصين على النظام المالي الدولي القائم على الدولار يجعلها عرضة للخطر ، ولهذا يبدو واضحا أن الصين لديها خطط لتغيير النظام المالي العالمي ،” بريتون وودز “، والعودة مرة أخرى لنظام يرتكز على الذهب كمعيار ، ما سيسمح بتنفيذ الهدف الجيوسياسي الرئيس للصين .
تراهن الصين أن يصبح الذهب في المستقبل بمثابة عملة إحتياطية ، وعلى قاعدته سيتم بناء النظام المالي العالمي الحالي .