المراقب : وحدة الدراسات
لا تبدو رقعة السودان الجغرافية خارطة شطرنج إدراكية لروسيا وفاغنر فقط، إذن أن الوجود الصيني هناك ، يعد أحد أهم المحددات التي تلعب دورا في رسم خريطة النفوذ القطبي سودانيا وإفريقيا معا .
ليس خافيا على أحد أن صراع الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية في السودان وما وراءها من دول إفريقيا، ليس صراعا لوجستيا عسكريا ، وإنما صراعا تجاريا إقتصاديا .
وبنوع خاص يمكن إرجاع الحرب التجارية بين بكين وواشنطن وبصورتها القوية ، إلى عهد إدارة الرئيس ترامب ، والذي أعتبر حتى من قبل أن يدخل البيت الأبيض ، أن الصين هي العدو الإستراتيجي الرئيس لأمريكا .
ولعله من المقطوع به القول أن الخرطوم أعتبرت محطة إفريقية مهمة بالنسبة للصين ، وقامت الأخيرة بتنفيذ مشاريع إقتصادية كبيرة في السودان لاسيما في قطاع النفط والإنشاءات .
إتجه السودان إلى الصين لإستخراج النفط عقب الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة منذ العام 1997 ، وساعدت الصين السودان في دخوله إلى قائمة الدول النفطية في العام 1990 .
كيف نجحت الصين في جعل السودان كعب أخيل في الجسد الإفريقي ؟
المؤكد أن الأخطاء الأمريكية التقليدية ، والتي جعلت البعض يصف الولايات المتحدة بأنها مصابة بنسيان قاتل ، يجعلها تكرر أخطاءها من غير إعتبار للتاريخ وحكاياه وللإنسانية وأحاجيها ، كانت هي السبب في ذلك ، إذ أنها لم تنظر للسودان الإ بوصفه سوقا للسلاح الأمريكي تارة ، وميدان ضرب نار وإختبار أسلحتها المتطورة في إستهداف الجماعات الإرهابية على أراضيه تارة أخرى ، كما حدث مرارا وتكرارا في الهجمات ضد تنظيم القاعدة مرات أخرى، عطفا على السعي المستمر والمستقر للحصول على موارده النفطية وبقية ثرواته المعدنية ، ومن غير أن يشكل السودان والسودانيين أدنى إهتمام إنساني أو وجداني لصناع الإستراتجيات الأمريكية .
ولعل الميزة التي توافرت للصين في السودان وغيره من الدول الإفريقية ، كونها من جهة دولة ذات إقتصاد يحتل المرتبة الثانية في الإقتصادات العالمية من جهة ، ومرشح لأن يحتل المركز الأول بحلول العقد القادم من جهة ثانية .
يعني هذا أنه يتوافر لديها فوائض مالية عالية ، تمكنها من تقديم قروض ومنح بالغة الأهمية للسودان ولدول إفريقيا .
عطفا على ذلك ، فإن الصين لا تتدخل في الشؤون السياسية للدول التي تتعاطى معها ، كما انها لا تفرض عليها شروط من قبيل الديمقراطية ، والحريات ، وحقوق الإنسان ، ما يجعل معادلتها مقبولة ومعقولة من كافة الأفارقة عبر معادلة بسيطة ..الموارد الأولية في مقابل الأموال الساخنة .
وعلى الرغم من أن الحضور العسكري الصيني في السودان ضعيف للغاية ولا يقارن بنظيره الروسي ، الإ أن السودان يمثل أهمية كبيرة من الناحية الجيوبوليتيكية ، وتدرك بكين وضعية الخرطوم كنقطة محورية على خارطة مبادرة ” الحزام والطريق “،والسودان لديه ثروات كبيرة ، فهو ثالث دولة إفريقية من حيث إنتاج الذهب ، وفيه اليورانيوم والأراضي الخصبة الصالحة للزراعة التي يمكن لبكين استثمارها لسنوات طويلة .
ولعل ما يوضح إهتمام أمريكا بالدور الصيني في إفريقيا بنوع خاص ، هذا التصاعد الهائل في التبادل التجاري بين الجانبين ،فقد وصل حجم التبادل في العام 2022 إلى 280 مليار دولار ، فيما لم يتجاوزالتبادل التجاري بين القارة السمراء والولايات المتحدة الأمريكية ، رئيس مجلس إدارة الكون ، والقطب المنفرد بمقدرات العالم حتى الساعة ، 80 مليار دولار .
عطفا على ذلك ،فإن واشنطن باتت تخش من الغطاء الدبلوماسي الأممي الصيني للسودان ، وهو ما تجلى بنوع خاص في شهر مارس الماضي ، حين أمتنعت الصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الداعي إلى تمديد العقوبات لمفروضة على السودان ، وكان قد حظي وقتها بموافقة 13 دولة ، في حين أمتنعت الصين وروسيا عن التصويت .
تبدو الولايات المتحدة الأمريكية ، وكأنها أدركت مؤخرا الخطأ الإستراتيجي الذي أرتكبته في حق القارة الإفريقية ، بهجرانها لها وتركها للأقطاب المناوئة سيما الصين وروسيا ومن يدور في فلكهما من التخوم .
تكاد المعادلة الأمريكية الانية ، والتي تتبد من خلال تصريحات بايدن الأخيرة عن معاقبة من يهدد الأمن والسلم في السودان ، بمثابة عودة من النافذة إلى البوابة التي تفتح القارة الإفريقية أمام العم سام مرة جديدة .
في 25 إبريل نيسان المنصرم ، كتب خبير الشؤون الإفريقية ، وعضو إدارة المجلس الأطلسي ، أحمد الشرعي ، عبر مجلة ” ناشونال إنترست ” الأمريكية يقول :” إن الحرب في السودان والتدخل الأمريكي بقوة ، باتا أولوية للمسؤولين بواشنطن ، وأن هناك نية لوقف تقدم أعداء الولايات المتحدة الذين استغلوا إبتعادها عن القارة المليئة بالخيرات ليندفعوا بدلا منها في محاولة لتحقيق مصالحهم الخاصة .
هنا يبدو التساؤل الذي نختتم به هذه السطور :” عبر أي بوابة يمكن للولايات المتحدة الأمريكية العودة لإفريقيا من خلال السودان ؟
البوابات الأمريكية عادة ما تنفتح على مصراعيها عبر القوة المسلحة الخشنة ، لكن هذه أثبتت فشلها من قبل في الصومال على سبيل المثال ، الأمر الذي يجعل محاولة تكرار الخطأ في السودان من جديد مسألة كارثية .
هنا يبدو التناقض الأمريكي واضحا جدا ، فواشنطن التي تتهيأ لدعم ومساندة القوات الأوكرانية في هجوم الربيع القادم ، عما قريب جدا ضد القوات الروسية ، ليس لديها رفاهية الإهتمام بالسودان أو التدخل العسكري في أراضيه ، كما أن الملف النووي الإيراني المفتوح على مصراعيه ، والتحذيرات الأمريكية الأخيرة ، من أنها لن تسمح بغيران نووية من جديد ، كلها تجعل من العمل العسكري الأمريكي على الأراضي السودانية أمر مشكوك فيه .
هل ستغازل واشنطن الأفارقة بالمعونات الإقتصادية ؟
ربما ستجد تحدي مزدوج ، وبخاصة في ظل التكامل الصيني الروسي، والذي يسعى لطرد النفوذ التقليدي الأمريكي ، وربما الأوربي من القارة السمراء ، عبر محورين ، الأول عسكري روسي ، والثاني إقتصادي صيني .
هل من خلاصة ؟
حكما تبدو واشنطن أمام إشكالية عميقة ، لن تصلح معها الأدوات التقليدية ، ما يجعل مراكز التفكير هناك تسعى لتقديم ربما ضفيرة من الرؤ والحلول ، لابد وأن يأتي في مقدمها ، إحترام الشعوب الإفريقية وإرثها التاريخي المجتمعي ، والمزيد من فهم ديناميكيات تلك الشعوب ، ونسج خيوط تجمع ما بين التعاون الإقتصادي والسياسي ، وتشجيع صعود الأمم من خلال نموذج أمريكا المدنية فوق جبل ، وليس عبر فوهات البنادق ونيران المدافع التي أثبتت فشلها في الكثير من التجارب السابقة .