دراسة.. أعدها للنشر إميل أمين
أين موقع وموضع القارة الأوربية التي كانت يوما مهبط التنوير والمدنية ، وموقع وموضع فلاسفة العالم ومجدديه ، على الساحة العالمية والقطبية المضطربة ، والتي تغشاها الضبابية في حاضرات أيامنا؟
المؤكد أن معانأة الأوربيين سابقة على ظهور كورونا ، ولاحقة على الحرب الروسية الأوكرانية .
قبل كورونا بدت أوربا في حالة تفكك ، إذ لم يصمد الإتحاد الأوربي ، وحين إنسلخت بريطانيا ، وجد الأوربيون أحد أعمدة خيمة الإتحاد يتهاوى .
أعتبر عدد من مفكري القارة الأوربية أن خلاصها في الطرح الأوراسي ، غير أن هذا الأمر لم يعجب العم سام ، والذي أستغل المخاوف الأوربية ، من بكين وموسكو ، وعمقها ، ووجد الأوربيون أنفسهم بين عشية وضحاها في حالة من الحيرة ، وأمام إستحقاقات تساؤل جوهري :” هل يخضعون للعم سام ، والذي لا ينفك يطالب بأمر واحد ، وهو زيادة مساهاماتهم المالية في تجديد شباب الناتو ، وبنسبة لا تقل عن 2% من الناتج الإجمالي لكل دولة على حدة ، وهو الأمر الذي طالب به ترامب ذات مرة ، وجدد المطالب الأمريكية به قبل أسابيع قليلة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن ، ما يعني أنه لا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين ، حين يتعلق الأمر بالهيمنة الأمريكية ، هذا من ناحية .
ومن الجهة الأخرى ، تساءل الأوريون :”هل يخاطرون بتحالفهم التاريخي مع غرب الأطلسي ، من خلال تعزيز الشراكات الجيواستراتيجية مع الدب الروسي والتنين الصيني ، وهي شراكات غير مأمونة العواقب ، حيث يرى الليبراليون الأوربيون ، كما الحال عند نظرائهم الأمريكيين شمولية توجهات الصينيين والروس وأنظمتهم الحكومية ، رغم المنافع التي تدرها تلك الشراكات وفي مقدمها الطاقة وتدفقها ؟
تبدو الحيرة سيدة الموقف ، لدى قارة قوامها 500 مليون نسمة ، وتعد سوقا واسعا ، ويربطها توجه إنسانوي عميق ، وتجربة تاريخية نادرة في بقية قارات العالم ، حتى الداخل الأمريكي ، المدين ولاشك للتنوير الأوربي ، ولعلماء القارة التي أعتبرها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد ، قارة عجوز .
أوربا الحائرة ، وغير القادرة على الغزل على الأقطاب الدولية ، تبدو اليوم في حالة مراجعة لحيرتها بين الغرب الأمريكي والشرق الأسيوي .
وربما لن تطول حيرتها ، فالذين قدر لهم مطالعة المستشار شولتز عن التحولات الجذرية في النظام العالمي ، وكيفية تجنب حرب باردة جديدة في عصر متعدد الأقطاب ، يخلصون إلى رجاحة القول أن أوربا قادرة على أن تنهض ، وتبلور حضورها القطبي ، وليس شرطا أن يكون حضورا تنافسيا مع أمريكا أو آسيا ، ولكنه حضور عودة الروح النهضوية ، من خلال تواصل ديمقراطي خلاق ، وهجرة منظمة قانونية لإستقطاب أفضل العقول من حول العالم ، وإعادة بناء قوتها المسلحة بحيث تصبح درعها وسيفها ، ومن غير إرتهان إرادتها أو قراراتها لأحد .
إنها أوربا التي تمتلك أمرين قادرين على إنتشالها من وهدتها الآنية ” الرجال ، والمرجعيات “، أما الرجال الأوربيون ، فيظهرون دوما في أوقات الأزمات ، كما تشرشل وديجول في زمن الحرب العالمية الثانية ، والمرجعيات متمثلة في مراكز الفكر والدراسات ، وكبريات الجامعة التي تحوي عقليات قادرة على التفكير بحزم والعمل بعزم .
وما بين أمريكا وأوربا وآسيا ، وزمن كورونا ، تصل بنا الأحداث إلى المتغير الأكثر إزعاجا خلال 2022 ، والذي سيلقي ولاشك تبعاته الجسام على العام ، وربما الأعوام القادمة ، وفي ضوء تطوراته ستتبلور ملامح القطبية العالمية ، وهل هي واحدة أم ثنائية أم متعدد الأطراف والأطياف ..ماذا عن ذلك ؟
خلال مشاركته في أعمال الدورة 25 لمنتدى سان بطرسبرغ الإقتصادي ، وفي أول حضور له منذ إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ، ومن خلال مشاركة نحو مائة دولة ، قدم قيصر روسيا ، فلاديمير بوتين ، رؤية بلاده لعالم ما بعد القطبية الواحدة ، إذ أعتبر أن آوان تلك الفكرة قد أنتهى وأن العالم لم يعد كما كان .
هل كان بوتين على حق ؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك ، فاليوم وبعد نحو عشرة أشهر من القتال الضاري ، تبين للجميع أن سيناريوهات الحروب العالمية في القرن العشرين لم تعد مجدية ، ذلك أنه لو جرت المقادير بالحرب العالمية الثالثة ، والتي قد تكون الأزمة الأوكرانية سببا رئيس لها ، فإن مقولة العالم الكبير البرت أينشتاين ،عن أسلحة الحرب العالمية الرابعة سوف تصدق، حيث لن يتبق للبشرية سوى العصى والحجارة ، وذلك بعد أن تختفي من على وجه الكرة الأرضية كافة معالم الحضارة من جراء الأسلحة النووية التي سوف تستخدم .
وضعت الحرب الأوكرانية العالم أمام حقيقة التعددية الأحادية ، فعل الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية ، كرأس حربة لحلف الناتو ، لم تلتزم بتعهداتها بعدم التمدد شرقا بالقرب من روسيا ، الإ أن ذلك لم يفت في عضد روسيا القوة النووية التي وضعت سيناريو الخيار الشمشوني على الطاولة ، حال وجدت أمنها القومي مهددا .
على أن الأمر لم يعد مرتبطا بالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا فقط ، فهناك أوربا التي تجد نفسها اليوم ، بين المطرقة الأمريكية والسندان الروسي، ومع أنها دعمت وزخمت الأوكرانيين بالكثير من الأسلحة ، الإ أنها لم تعد قادرة على المضي لجهة تشجيع أوكرانيا لتجاوز الخطوط الحمراء العسكرية والتي تستدعي ردات فعل تقدر على مواجهتها .
واشنطن ، القطب المتفرد بمقدرات العالم ، نظريا ، على الأقل ، بدورها وفي الشهر الجاري ، أي قبل أن ينصرف العام ، تكاد تعود إلى رشدها بعد أن ثبت لديها أن فكرة هزيمة بوتين عسكريا غير واردة بالمرة ، فيما الخسائر تتراكم عند الجانب الأوكراني وبشكل مفزع ، ناهيك عن الخسائر الإقتصادية الامريكية من جراء الدعم المتواصل لأوكرانيا وبمليارات الدولارات .
بجانب ما تقدم ، يتضح لواشنطن ، وكما ظهر جليا في إسترتيجيتها الأخيرة للأمن القومي ، أنه وفيما روسيا اليوم تظهر كأنها الخطر الواضح والحاضر ، فإن الصين تمضي وراء الأفق لتشكل التحدي العسكري الحقيقي ، والذي يجعل قطبية أمريكا المنفردة بمقدرات العالم أثرا بعد عين .
الأمريكيون يقطعون بأن الصينيين في طريقهم لمراكمة ترسانة نووية ، تتجاوز الف وخمسائة رأس نووي في المدى الزمني المنظور ، وقد يصل الأمر إلى 10000 راس نووي بحلول 2023 .
أما عن البحرية الصينية ، فتتمدد يوما تلو الأخر ، ما يجعل الهيمنة الأمريكية على البحار والمحيطات من أحاديث الماضي ، وبخاصة في ظل التعاون الروسي الصيني القائم والقادم .
وفيما يبدو أنه لا نهاية قريبة للحرب الروسية – الأوكرانية ، تخلص غالبية دول العالم إلى حقيقة مفادها أن الرهان على طرف بعينه ، والإنسياق المطلق من وراء قوة بذاتها ، بات أمر غير محبوب و مرغوب ، والأفضل هو تشكيل مروحة من الحلفاء المتعددي الأطراف ، ما بين الشرق والغرب ، بما يعني زوال فكرة القطب الواحد ، حتى وأن بقت واشنطن لنهاية هذا العقد ، الأول بين متساوين ، هذا إن لم تقود تطورات المشهد الأمريكي الداخلي إلى أرتباك يضعف من الحضور الأمريكي العالمي ، وهو مصير الإمبراطوريات العظمى من غير أدنى شك ، وعلى غير المصدق الرجوع إلى كتابات المؤرخ العالمي ، إدوار غيبون ، ورؤيته للإمبراطورية الرومانية ، وكيف أنتهى بها الحال .