المراقب : وحدة الدراسات
في أواخر أكتوبر الماضي ، وخلال حفل لجمع التبرعات في نيويورك ، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن ” لم نواجه احتمال حدوث هرمجدون ، منذ زمن الرئيس كيندي ، وأزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962 . وأعتبر أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين ” لم يكن يمزح “، عندما أطلق تلك التهديدات .
هذا الحديث لبايدن أربك أركان الإمبراطورية الأمريكية المرتبكة جدا في هذه الأوقات ، لا سيما على عتبات إنتخابات التجديد النصفي للكونغرس ، تلك التي يتوقع لها أن تضحى موعدا مفصليا ، للكثير من التغيرات على صعيد المجتمع الأمريكي .
ما الذي يقصده بايدن ب” هرمجدون “؟
من باب التذكير، هي المعركة التي يؤمن بها أصحاب اليمين الأصولي المتشدد في الداخل الأمريكي ، ويعتقدون أن نهاية العالم ، وفناء البشرية ، مرتبط بها ، ومجدو هذه قرية في فلسطين في أصل التعبير ، وباتت كلمة هرمجدون ، المكافئ الموضوعي للحرب النووية التي لا تبقي ولا تذر .
يتساءل المراقبون :” هل جاء التصريح كزلة من زلات لسان الرئيس الأمريكي المتكررة والتي عادة ما تضع الإدارة برمتها في حرج أمام العالم ، أم أن هناك من يحاول بالفعل إستدراج بوتين للقيام بمثل هذه المغامرة النووية ، ومن ثم إدخال العالم في الجحيم النووي الذي لن يوفر أي من بني البشر ؟
مهما يكن من أمر التساؤل وعلى أهميته ، الإ أنه ينبغي القطع بأن أوقاتنا الحالية ، تكاد تتجاوز في خطورتها ما عاشته الولايات المتحدة الأمريكية ، في زمن الرئيس جون كيندي ، وتحديدا في الفترة ما بين 14 و 28 أكتوبر تشرين أول عام 1962 ، حين أكتشفت الأقمار الإصطناعية الأمريكية ، قواعد صواريخ باليستية في جزيرة كوبا على القرب من ولاية فلوريدا ، وكاد المشهد أن يقود إلى مواجهة نووية بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية .
هل اليوم يشابه الأمس في خطورته ؟
من أسف شديد ، اليوم أخطر كثيرا من الأمس ، لا سيما في ظل حرب مفتوحة على كافة الإحتمالات ، ولا يعرف أحد ، كيف يمكن أن تنتهي ، وإلى أي مدى يمكن أن تطول .
منذ صباح الإثنين العاشر من أكتوبر تشرين أول الجاري ، تبدو قواعد الإشتباك أكثر إثارة للقلق والخوف معا ، وبخاصة بعد القصفات الصاروخية المكثفة التي قامت بها القوات الروسية تجاه العديد من المدن الأوكرانية ، مستهدفة البنية التحتية ، والكثير من الأهداف الإستراتيجية الثمينة .
بات السؤال خلال الساعات الماضية :” كيف سيكون رد كييف ، أو بالأحرى كيف يخطط الناتو للرد على روسيا من خلال كييف ، وهل في الردود المتوقعة ، تصعيدا عسكريا ، سيجد حكما ردات فعل أشد هولا ، كما توعد الرئيس الروسي بوتين ، ما يمكن أن يقود في نهاية المطاف ، إلى هرمجدون التي يتحدث عنها بايدن ؟
قبل الجواب ، دعونا نوكد على أمر مهم ، وهو أن تصريحات بايدن لم تستند على معلومات إستخبارية جديدة حول نوايا الرئيس الروسي بوتين ، أو تغيرات في الموقف النووي لروسيا ، حيث لا تزال الولايات المتحدة لا ترى أي دليل على أن بوتين يتجه نحو إستخدام السلاح النووي الروسي .
لكن هذا لا ينفي أن تهديدات بوتين بالسلاح النووي ، دفعت مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى التحذير من ” عواقب كارثية “، أواخر الشهر الماضي إذا تحركت موسكو لإستخدام الأسلحة النووية ، حيث زاد بوتين من حدة لهجته منذ ذلك الحين .
وبالعودة للتساؤل المتقدم ، يمكن القطع بأن التحركات الروسية على رقعة الشطرنج الأوكرانية ، حكما موصولة بتبعات الغارات الصاروخية للإثنين الماضي ، وهل سنرى في أرض المعركة أسلحة أمريكية أو بريطانية متقدمة ن يمكنها أن تصيب الدب الروسي في مقتل ، وفي محاولة لتخفيف الضغط على أوكرانيا .
يمكن أن يمضي السيناريو على النحو التالي ، فإما أن تكون الرسالة قد وصلت الجميع ، بأن اليد الروسية المميتة قد بدأت بالفعل في الطرق على الحديد الأوكراني الساخن ، وأنها لن تتراجع ، ومن هنا يمكن أن يبزغ بشكل أو بأخر ، سيناريو للتفاوض ، وهناك الكثيرين الذين قدموا أفكارا واضحة في هذا الإطار ، بدءا من هنري كيسنجر ، وصولا إلى إيلون ماسك ، أو أن تمضي واشنطن في طريق تأجيج نيران المواجهة ، وإلى الحد الذي يمكن أن يجد فيه بوتين نفسه تحت إضطرار وليس إختيار للضغط على الزر النووي ، بدءا من التكتيكي ، أول الأمر ، وصولا إلى الإستراتيجي في خاتمة المطاف ، وبخاصة إذا تعرضت المنشأت أو الأراضي الروسية لأي هجوم من الجانب الأوربي أو الأمريكي نوويا .
أحد الأسئلة المخيفة بل المرعبة حقا ، والتي عالجتها السينما العالمية في العديد من الأفلام الهوليودية :” هل هناك من هو قادر على إشعال العالم ، وبطريق غير مباشر ، وعلى العكس من إرادة بايدن وبوتين ، واللذان يقدران كارثية الأمر حال حدوثه ؟
من أسف شديد ، يبدو ذلك ممكنا ، وعلى غير المصدق أن يراجع الهجمات السيبرانية التي تعرضت لها عدة مطارات في الداخل الأمريكي مساء الإثنين عينه الذي شهد الهجوم على كييف .
إن حادثة من هذا النوع ، تشيئ بأن هناك من قوى الشر الماورائية ، من يمكنه أن يلج واحدة من قواعد الصواريخ النووية الأمريكية أو الروسية ، وربما قاعدة أخرى حول العالم ، ومع إشعال أول صاروخ يحمل رأسا ذرية ، وإطلاقه على أحد الجانبين ، سيتوارى السلام العالمي ، ويحل الشتاء النووي من خلال الضربات الإنتقامية المتبادلة .
” إن حربا نووية لا يمكن الفوز بها ويجب الأ تخاض ابدا “. هذا ما قالاه الرئيسان بابدن وبوتين في بيان مشترك لهما عقب قمتهما في يونيو حزيران 2021 .
لكن الواقع المأزوم اليوم يشير إلى أن الإلتزام الأخلاقي من موسكو وبكين لم يعد يكفي ، والكارثة أنه ما من أحد قادر على تقديم ضمانات لعدم وقوع القارعة .
هرمجدون ليست نزهة نووية ..هذا ما يتوجب على الجميع إداركه .