المراقب : وحدة الدراسات
مع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بدت مشكلة الشيخوخة تؤرق العالم ، حيث فاق عدد الذين تجاوزوا الستين من عمرهم ، نحو سبعمائة مليون نسمة ، هذا الرقم مرشح للوصول إلى ملياري نسمة بحلول العام 2050 ، أي خلال أقل من ثلاثين عاما من اليوم ، ما يجعل عدد المسنين أكثر من عدد الأطفال لأول مرة في تاريخ البشرية مما ينبئ بأن العالم يتجه نحو الشيخوخة .
تطرح ظاهرة ” التشيخ ” نفسها كأحد أهم التحديات التي تواجه الحكومات في القرن الحادي والعشرين ، في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء .
هل يمكننا إرجاع تقدم عمر السكان إلى توافر الرعاية الطبية ، وجودة الحياة ، والقدرة على مواجهة الأوبئة والأمراض المتوطنة ، بل والقضاء عليها ؟
يمكن بالفعل أن يكون كل هذا صحيحا ، غير أن هناك أمر أخر لابد أن يؤخذ في الحسبان ، وهو تناقص النمو السكاني ، وتراجع معدلات الزيادة الديموغرافية في الكثير من بقاع العالم ، من أوربا إلى أمريكا وهو أمر بدأ ينسحب اليوم على الصين كما تفيد أحدث القراءات الواردة من هناك .
هل كانت علائم الشيخوخة بادية على أمريكا ، قبل منافسة بايدن وترامب ، وتقدم أعمار رجالات الكونجرس وما نحو ذلك ؟
الشاهد أن ذلك كذلك ، والدليل ، التقرير المعنون ” المسنون الأمريكيون في 2008″، أي قبل عقد ونصف من الزمن ، وقد أعده باحثون لصالح حكومة الولايات المتحدة ، والذي تنبأ بتضاعف عدد المسنين الأمريكيين الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما في عام 2030 ، إلى 71.5 مليون نسمة ، أو 20% من إجمالي السكان الأمريكيين ، من 12% أو 37 مليون نسمة في عام 2006.
في أواخر ديسمبر من عام 2021 ، كانت الولايات المتحدة الأمريكية ، تشهد تراجع النمو السكاني ، إلى واحد بالعشرة بالمئة ، وهي أقل نسبة نمو سكاني ، منذ تأسيس الولايات المتحدة بشكلها الحالي ، والعهدة هنا على صحيفة النيويورك تايمز .
من أين جاءت تلك البيانات ؟
قطعا من مركز الإحصاء الأمريكي ، والذي اشار إلى أن ذلك التراجع المثير للقلق ، مرده “إنخفاض صافي الهجرة الدولية ، وإنخفاض الخصوبة ، وزيادة معدل الوفيات الناجم جزئيا عن تفشي فيروس كوفيد- 19 .
كيف تحتسب قيمة النمو السكاني ؟
الطريقة واضحة وبسيطة ، إنها الفرق بين أعداد الولادات والوفيات .
والحقيقة أن تباطؤ النمو السكاني في الداخل الأمريكي ، سابق لإنتشار الوباء الفتاك الأخير، وهذا ما تؤكده ، كريستي وايلدر ، الديموغرافية في قسم السكان في مكتب الإحصاء ، إذ صرحت بالقول :” أن النمو السكاني الأمريكي يتباطأ منذ سنوات، فيما نسبة الشيخوخة تتقدم في البلاد “.
أما البروفيسور كينيث جونسون ، وهو خبير ديموغرافي في جامعة نيوهامبشير ، فيقطع بأن النمو السكاني الأمريكي ، سيظل منخفضا ، لأن شيخوخة السكان من المحتمل أن تزيد معدلات الوفيات ، ولأن الإستقرار في المواليد يبدو مستمرا .
هناك ولاشك جزئية سيسيولوجية في هذا الحديث ترتبط بمناخات الحرية المنفلتة ، وتفضيل الشباب الحياة الحرة ، من غير إلتزام بالزواج والإنجاب ، وهي ظاهرة تعرفها أوربا بأكثر من أمريكا ، ما يجعل الوضع الديموغرافي الأمريكي غير مبشر .
ولعل التساؤل الواجب طرحه :” لماذا يخشى الكثير من الثقات الأمريكيين ، تراجع معدلات النمو السكاني في بلادهم ؟
عند الكاتب الأمريكي ، هال براندز ، من خدمة ” بلومبيرغ “، أنه على الرغم من أن أمريكا تحصر تركيزها في الإنفاق العسكري وإجمالي الناتج الداخلي ، بإعتبارهما مؤشرين على وضع أمريكا في مواجهة الصين وروسيا ، تظل الحقيقة أن الصورة الديموغرافية العامة للولايات المتحدة هي الأهم ، ذلك أنه ما دامت البلاد قادرة على إنجاب أبناء ، وهم أصل قوتها ، ستظل قادرة على لعب الدور المنوط بها عالميا .
براندز يقطع بأن وجود معدل سكان متنامي، نسبة كبيرة منهم تنتمي إلى سن العمل ، أمر يشكل مصدرا لقوة عسكرية ، ولا يخشى معه من زيادة سكانية في القو القطبية المناوئة لا سيما الصين في العقود القادمة .
ما الذي يمكن أن يحدق بالولايات المتحدة حال تغيرت تلك الحقائق السكانية، وتفاقمت نسب زيادة الشيوخ عن الشباب ، والكهول غير القادرين على العمل ، عن السواعد الفتية ، التي لا تنفك تقيم بنيان أمريكا القوية مالئة الدنيا وشاغلة الناس ؟
ترتبط الأزمنة الإمبراطورية بمدى القوة والقدرة الإقتصادية للدول والممالك ، وهذا ناموس طبيعي ، جرت به المقادير منذ الاف السنين ، ذلك أنه كلما زاد ثراء شعب ما ، وبلغ ناتجه الإجمالي حدا يفوق إحتياجات مواطنيه في الداخل، فإن القائمين عليه يسرعون تلقائيا إلى الخارج ، ومن هنا تنشأ الهيمنة الإقتصادية أول الأمر والسياسية تاليا ، وكلاهما يقومان في ظل حماية عسكرية .
ومع مضي السنون ، تصاب الإمبراطوريات بفيروس الإهتراء من الداخل ، وتبدأ في فقدان مقوماتها الإقتصادية ، ثم تعاني من حالة إنكماش وعدم مقدرة على الإنفاق على مستعمراتها في الخارج .
الإقتصاد إذن يرتبط بمستقبل الدول والقوى العظمى ، قبل أن تفعل السياسة فعلها ، ومن هنا يمكن الربط بين حالة الشيخوخة ، ومستقبل الولايات المتحدة ، على كافة الأصعدة ، وليس صعيد واحد .
البداية هنا تكون عادة من عند نقص الأيدي العاملة ، ما يقود إلى إنخفاض في الإنتاجية ، وإرتفاع تكاليف العمالة ، وتأخر توسع الأعمال التجارية ، وكذلك إنخفاض القدرة على التنافس مع القوى الإقتصادية الأخرى حول العالم ، وفي حال الولايات المتحدة ، ستكون الصين والهند الدول المرشحة للتنافس .
عطفا على ذلك فإن نقص الأيدي العاملة يمكن أن يقود إلى إستجلاب المزيد من الهجرات ذات الأيدي العاملة الرخيصة ، غير أن هذا التوجه سيؤثر على حضور الرجل الابيض في البلاد ، ويصيبه عدديا ومن هنا تتحقق مخاوف الواسب الأمريكي من الإضمحلال .