ضمن خطوات تعزيز مسيرة الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات، وفي طريق تعميق العلاقات الإنسانية، جاء لقاء معالي الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات،” كايسيد “،الدكتور زهير الحارثي ، صباح الثلاثاء السابع من يونيو حزيران الجاري، مع قداسة الحبر الأعظم، البابا فرنسيس، في حاضرة الفاتيكان.
يمكن القطع بداية بأن رأس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ومن خلال الإهتمام بهذا اللقاء، والذي جاء قبل ذهابه إلى مستشفى الجيميلي في العاصمة الإيطالية روما، لإجراء عملية جراحية، أظهر ما لكايسيد من أهمية خاصة في قلبه وعقله ونفسه، وهو البابا الذي أظهر منذ بداية حبريته إهتماما خاصا بتعزيزالحوار مع العالم الإسلامي، وقد أعتبر أن مد الجسور مع أصحاب الحضارة العربية والإسلامية، أمر يعمق حالة السلم والأمن العالمي والإقليمي .
صباح الثلاثاء، كان فرنسيس يشيد بدور كايسيد في ترسيخ مسارات الحوار ومساقات الجوار حول العالم، عطفا على دعمه لكافة المبادرات التي يقدمها المركز لتمتين جسور التسامح، ومد بساط التصالح في عالم تتعدد فيه الثقافات، وتتنوع الإنتماءات، وقد باتت قضية الهوية، قضية فراقية في أحيانا كثيرة، ما تسبب ولا يزال في المزيد الصراعات العرقية والقومية، عطفا على الدوجمائية منها .
في الوقت عينه، عبر الأمين العام لكايسيد معالي الدكتور زهير الحارثي، عن تقديره الكبير للمؤسسة الرومانية الكاثوليكية، والدور الحيوي والفعال الذي لعبه البابا فرنسيس بنوع خاص، وحاضرة الفاتيكان بوجه عام في زخم جهود كايسيد طوال عقد أنصرم، أثمر عن تغيير الكثير من الأوضاع المثيرة للقلق حول العالم ، ومداواة خلافات كان يمكن لها أن تستفحل مسببة المزيد من المعانأة.
في طريقه إلى حاضرة الفاتيكان، كان الأمين العام معالي الدكتور الحارثي، يحمل خلفية تاريخية عن فترة من أهم وأخصب الفترات التي داوات جراحات الماضي ، ونعني بذلك السنوات الأربع التي أنعقد فيها ما عرف باسم ” المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني “019620-1965).
خطا هذا المجمع خطوة جديدة في تاريخ المجامع المسكونية ، ولعل أهم ما يميزه ، أنه لم يهدد ولم يطرد ، كما لم يحرم أو يتطرق إلى إعلان عقائد إيمانية جديدة كالمجامع السابقة ، بل إمتاز عنها كثيرا ، لكونه حمل الكنسية على إلقاء نظرة إلى ذاتها من الداخل ، ليتسنى لها أن تبعث في جنباتها حيوية تتجاوب مع مقتضيات العصر ، فتقوى حينذاك على بعث حيويتها إلى الخارج .
صدر عن هذا المجمع أول وثيقة مسيحية معاصرة ، بلورت رؤية المسيحية للمسلمين حول العالم ، وقد جاءت تحت عنوان ،” في حاضرات أيامنا “، وجاء صدورها تلبية لرغبة البابا الداعي للمجمع ، وعبر عنها الكاردينال، “بيا”، الألماني الأصل، وهدف البابا من هذا التصريح أن يستاصل كل جذور الكراهية والحقد التي طالما تسببت في الصراعات ، وبخاصة حين أتخذت النصوص الدينية تاريخيا ذريعة لذلك .
تظهر الوثيقة إحتراما فائقا للمسلمين في رياح الأرض الأربع ، وتعترف بأنهم يؤمنون بالله الواحد الأحد القيوم الرحمن ، فاطر السماء والأرض ، ويشير نص الوثيقة إلى تسليم المسلمين لأحكام الله الخفية وقضائه .
حمل هذا النص – الوثيقة ، دعوة تصالحية غير مسبوقة في الخطاب المسيحي الغربي ، دعوة لم تعرفها أوربا طوال خمسة عشر قرنا ، وتدعو للقفز على الماضي وكذا إنتكاساته وإخفاقاته .
نقرأ في متن الوثيقة ما نصه :” ولئن كان عبر الزمان قد وقعت من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين ، فإن المجمع يهيب بالجميع أن ينسوا الماضي ، وأن يعملوا بإجتهاد صادق سبيلا للتفاهم فيما بينهم ، وأن يتماسكوا من أجل جميع الناس على حماية وتعزيز العدالة الإجتماعية والقيم الأدبية والسلام والحرية” .
يؤمن القائمون على كايسيد اليوم، وفي سلم القيادة الدكتور الحارثي المثقف العضوي، بحسب وصف غرامشي، أن الحوار بات من أهم وأرقى المهارات الاجتماعية، فطريقه هو طريق التقارب والتفاهم والحب والتعاون.
في الوقت عينه هو طريق المستقبل، والنجاح والابداع والنهضة، وطريق الفهم العميق للنفس وللآخر، وإذا لم نسلك هذا الطريق فالبديل هو طريق الشعور بالوحدة والتباغض والتعانف والانغلاق على النفس وسوء الفهم.
يدفعنا لقاء البابا فرنسيس والدكتور الحارثي للتساؤل عن الركائز التي ينطلق منها هذا الحوار والتعاون الخلاق بين مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي ، وبين المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، والتي يتجاوز أتباعها نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة تقريبا موزعين حول قارات الأرض الست .
حكما تظل نقطة البداية متمثلة في مفهوم الحوار كاحتياج إنساني، يمكن أن نقول إنه يقع ضمن الحاجات الأساسية للإنسان. فبداية حياة كل إنسان هي الحوار، وما الصله البيولوجية الطفيلية بين الطفل وأمه إلا حوار.
فالطفل في حوار دائم مع أمه ومع من حوله. صحيح أنه لا يستطيع أن يتكلم ولكنه يعبر عن نفسه من خلال صياحه، أو دموعه، أو ابتساماته، أو نظراته…. إلخ، فالعلاقة هي الأصل، أما العزلة فهي الحالة الشاذة.
إن الإنسان لا يستطيع ان يعيش بدون حوار، الوحدة تقتله، لأنه كائن اجتماعي، يحتاج أن يحب وأن يكون محبوباً، فدفء الحب يحميه من الأنانية، ومن فقدان الأمان، والخوف من المستقبل، والشعور بالوحدة….. إلخ.
والإنسان يحتاج إلى التقدير والاحترام، وفي الحوار يستطيع أن يؤكد ذاته لنفسه وللآخرين، وأن يكتسب حبهم واحترامهم، وأن يشعر بدفء الحياة.
يأتي لقاء قداسة البابا ومعالي الأمين العام، وقبل عدة فاعليات مهمة، لا سيما اليوم العالمي للشباب الكاثوليكي في لشبونة، والذي يشارك البابا فرنسيس فيه، ويلتئم من حوله عشرات الالاف من الشباب الكاثوليكي من حول العالم، ليفتح الطريق واسعا لمزيد من جهود كايسيد الفائقة الأهمية، وكأن القدر يقدم لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي، في عامه الأول في البرتغال، هدية قدرية ليمد جسور التواضل مع كافة أرجاء المسكونة ، وعير خيرة شباب دول العالم أولئك الذين يقبضون بقوة على الرغبة في الحياة والنماء .
أحلى الكلام..طوبى لصانعي السلام.